وَمَا أَحَلَّ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ بَأْسِهِ الَّذِي لَا يُرَدُّ، لَا أَنَّ الْمُرَادَ الْإِخْبَارُ عَنْ مَدِينَةٍ أَوْ إِقْلِيمٍ.
وَإِنَّمَا نَبَّهْتُ عَلَى ذَلِكَ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِكَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ ذِكْرِ مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا: إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ، مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قُصُورُهَا وَدَوْرُهَا وَبَسَاتِينُهَا، وَإِنَّ حَصْبَاءَهَا لَآلِئٌ وَجَوَاهِرُ وَتُرَابُهَا بَنَادِقُ الْمِسْكِ وَأَنْهَارُهَا سَارِحَةٌ وَثِمَارُهَا سَاقِطَةٌ، وَدُورُهَا لَا أَنِيسَ بِهَا وَسُورُهَا وَأَبْوَابُهَا تَصْفَرُّ لَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٍ، وَأَنَّهَا تَنْتَقِلُ فَتَارَةٌ تَكُونُ بِأَرْضِ الشَّامِ وَتَارَةٌ بِالْيَمَنِ وَتَارَةٌ بِالْعِرَاقِ وَتَارَةٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبِلَادِ، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ خُرَافَاتِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ مِنْ وَضْعِ بَعْضِ زَنَادِقَتِهِمْ لِيَخْتَبِرُوا بِذَلِكَ عُقُولَ الْجَهَلَةِ مِنَ النَّاسِ أَنْ تُصَدِّقَهُمْ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ.
وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قِلَابَةَ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ ذَهَبَ فِي طَلَبِ أَبَاعِرَ لَهُ شَرَدَتْ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَتِيهُ فِي ابْتِغَائِهَا إِذْ اطلع عَلَى مَدِينَةٍ عَظِيمَةٍ لَهَا سُورٌ وَأَبْوَابٌ، فَدَخَلَهَا فَوَجَدَ فِيهَا قَرِيبًا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ صِفَاتِ الْمَدِينَةِ الذَّهَبِيَّةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَأَنَّهُ رَجَعَ فَأَخْبَرَ النَّاسَ فَذَهَبُوا مَعَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي قَالَ فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ قِصَّةَ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ هَاهُنَا مُطَوَّلَةً جِدًّا فَهَذِهِ الْحِكَايَةُ لَيْسَ يَصِحُّ إِسْنَادُهَا، وَلَوْ صَحَّ إِلَى ذَلِكَ الْأَعْرَابِيِّ فَقَدْ يَكُونُ اخْتَلَقَ ذَلِكَ أَوْ أَنَّهُ أَصَابَهُ نَوْعٌ مِنَ الْهَوَسِ وَالْخَبَالِ، فَاعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ لَهُ حَقِيقَةٌ فِي الْخَارِجِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَهَذَا مِمَّا يُقْطَعُ بِعَدَمِ صِحَّتِهِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا يُخْبِرُ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْجَهَلَةِ وَالطَّامِعِينَ وَالْمُتَحَيِّلِينَ مِنْ وُجُودِ مَطَالِبَ تَحْتَ الْأَرْضِ، فِيهَا قَنَاطِيرُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وألوان الجواهر واليواقيت واللئالئ وَالْإِكْسِيرِ الْكَبِيرِ، لَكِنْ عَلَيْهَا مَوَانِعُ تَمْنَعُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهَا وَالْأَخْذِ مِنْهَا، فَيَحْتَالُونَ عَلَى أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ وَالضَّعَفَةِ وَالسُّفَهَاءِ فَيَأْكُلُونَهَا بِالْبَاطِلِ فِي صَرْفِهَا فِي بَخَاخِيرَ وَعَقَاقِيرَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْهَذَيَانَاتِ وَيَطْنِزُونَ بِهِمْ، وَالَّذِي يُجْزَمُ بِهِ أَنَّ فِي الْأَرْضِ دَفَائِنَ جَاهِلِيَّةً وَإِسْلَامِيَّةً وَكُنُوزًا كَثِيرَةً مَنْ ظَفَرَ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَمْكَنَهُ تَحْوِيلُهُ، فَأَمَّا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي زَعَمُوهَا فَكَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ وَبُهْتٌ وَلَمْ يصح في ذلك شيء مما يقولونه إِلَّا عَنْ نَقْلِهِمْ أَوْ نَقْلِ مَنْ أَخَذَ عَنْهُمْ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْهَادِي لِلصَّوَابِ.
وَقَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ «١» يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِرَمَ قَبِيلَةً أَوْ بَلْدَةً كَانَتْ عَادٌ تَسْكُنُهَا فَلِذَلِكَ لَمْ تُصْرَفْ، فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ السِّيَاقِ إِنَّمَا هُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْقَبِيلَةِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ:
وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ يَعْنِي يَقْطَعُونَ الصَّخْرَ بِالْوَادِي، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَنْحِتُونَهَا وَيَخْرِقُونَهَا، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ وَمِنْهُ يُقَالُ مُجْتَابِي النِّمَارَ إِذَا خَرَقُوهَا، وَاجْتَابَ الثَّوْبَ إِذَا فَتَحَهُ وَمِنْهُ الْجَيْبُ أَيْضًا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ [الشُّعَرَاءِ: ١٤٩]، وَأَنْشَدَ ابْنُ جَرِيرٍ وابن أبي حاتم هاهنا قول الشاعر: [الطويل]