لا يغلبنّ صليبهم... ومحالهم أبدا مِحَالَكَ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ أَرْسَلَ عَبْدُ المطلب حلقة الباب ثم خرجوا إلى رؤوس الجبال، وذكر مقاتل بن سلمان أَنَّهُمْ تَرَكُوا عِنْدَ الْبَيْتِ مِائَةَ بَدَنَةٍ مُقَلَّدَةٍ لَعَلَّ بَعْضُ الْجَيْشِ يَنَالُ مِنْهَا شَيْئًا بِغَيْرِ حق فينتقم الله منهم، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبَرْهَةُ تَهَيَّأَ لِدُخُولِ مَكَّةَ وَهَيَّأَ فِيلَهُ، وَكَانَ اسْمُهُ مَحْمُودًا، وَعَبَّأَ جَيْشَهُ فَلَمَّا وَجَّهُوا الْفِيلَ نَحْوَ مَكَّةَ أَقْبَلَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ حَتَّى قَامَ إِلَى جَنْبِهِ، ثُمَّ أَخَذَ بِأُذُنِهِ وَقَالَ:
ابْرُكْ مَحْمُودُ وَارْجِعْ رَاشِدًا مِنْ حَيْثُ جِئْتَ، فَإِنَّكَ فِي بَلَدِ اللَّهِ الْحَرَامِ ثُمَّ أَرْسَلَ أُذُنَهُ فَبَرَكَ الْفِيلُ وَخَرَجَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ يَشْتَدُّ حَتَّى أُصْعِدَ فِي الْجَبَلِ، وَضَرَبُوا الْفِيلَ لِيَقُومَ فَأَبَى، فَضَرَبُوا فِي رَأْسِهِ بالطبرزين وأدخلوا محاجن لهم في مراقه فنزعوه بِهَا لِيَقُومَ فَأَبَى، فَوَجَّهُوهُ رَاجِعًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَامَ يُهَرْوِلُ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى الشَّامِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ وَوَجَّهُوهُ إِلَى الْمَشْرِقِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى مَكَّةَ فَبَرَكَ.
وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا مِنَ الْبَحْرِ أَمْثَالَ الْخَطَاطِيفِ وَالْبَلَسَانِ مَعَ كُلِّ طَائِرٍ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ يَحْمِلُهَا: حَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ وَحَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ أَمْثَالُ الْحُمُّصِ والعدس ولا يصيب مِنْهُمْ أَحَدًا إِلَّا هَلَكَ. وَلَيْسَ كُلُّهُمْ أَصَابَتْ وَخَرَجُوا هَارِبِينَ يَبْتَدِرُونَ الطَّرِيقَ وَيَسْأَلُونَ عَنْ نُفَيْلٍ لِيَدُلَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ، هَذَا وَنُفَيْلٌ عَلَى رَأْسِ الْجَبَلِ مَعَ قُرَيْشٍ وَعَرَبِ الْحِجَازِ يَنْظُرُونَ مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ مِنَ النِّقْمَةِ، وَجَعَلَ نفيل يقول: [رجز]
أين المفرّ والإله الطالب... والأشرم المغلوب ليس الْغَالِبْ «١»
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَقَالَ نُفَيْلٌ فِي ذلك أيضا: [الوافر]
أَلَا حُيِّيتِ عَنَّا يَا رُدَيْنَا... نَعِمْنَاكُمْ مَعَ الإصباح عينا
ودينة لَوْ رَأَيْتِ وَلَا تَرَيْهِ... لَدَى جَنْبِ الْمُحَصَّبِ مَا رَأَيْنَا
إِذًا لَعَذَرْتِنِي وَحَمِدْتِ أَمْرِي... وَلَمْ تأس عَلَى مَا فَاتَ بَيْنَا
حَمِدْتُ اللَّهَ إِذْ أَبْصَرْتُ طَيْرًا... وَخِفْتُ حِجَارَةً تُلْقَى عَلَيْنَا
فَكُلُّ القوم تسأل عَنْ نُفَيْلٍ... كَأَنَّ عَلَيَّ لِلْحُبْشَانِ دَيْنَا
وَذَكَرَ الواقدي بإسناده أَنَّهُمْ لَمَّا تَعْبَئُوا لِدُخُولِ الْحَرَمِ وَهَيَّئُوا الْفِيلَ جَعَلُوا لَا يَصْرِفُونَهُ إِلَى جِهَةٍ مِنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ إِلَّا ذَهَبَ فِيهَا، فَإِذَا وَجَّهُوهُ إِلَى الْحَرَمِ رَبَضَ وَصَاحَ، وَجَعَلَ أَبَرْهَةُ يَحْمِلُ عَلَى سَائِسِ الْفِيلِ وَيَنْهَرُهُ وَيَضْرِبُهُ لِيَقْهَرَ الْفِيلَ عَلَى دُخُولِ الْحَرَمِ، وَطَالَ الْفَصْلُ فِي ذَلِكَ، هَذَا

(١) الرجز لنفيل بن حبيب الحميري في الدرر ٦/ ١٤٦، وشرح شواهد المغني ص ٧٠٥، والمقاصد النحوية ٤/ ١٢٣، وتفسير الطبري ١٢/ ٦٩٨، وسيرة ابن هشام ١/ ٥٣، وبلا نسبة في الجنى الداني ص ٤٩٨، ومغني اللبيب ص ٢٩٦، وهمع الهوامع ٢/ ١٣٨.


الصفحة التالية
Icon