وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ أَيْ عَمَّا كَانَ مِنْكُمْ فِي حَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَهَكَذَا أَيْضًا عَمَّا خَرَجَ مِنْ سَبْقِ اللِّسَانِ، وَلَمْ يَقْصِدْ إِلَيْهِ الْمُتَكَلِّمُ، كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ يَا أُخْتِي، فَقَالَ: «أُخْتُكَ هِيَ؟» فَهَذَا إِنْكَارٌ، وَلَكِنْ لَمْ يُحَرِّمْهَا عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْهُ وَلَوْ قَصَدَهُ لَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ عَلَى الصَّحِيحِ بَيْنَ الْأُمِّ وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الْمَحَارِمِ مِنْ أُخْتٍ وَعَمَّةٍ وَخَالَةٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ تعالى: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تعالى: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْعَوْدُ هُوَ أَنْ يَعُودَ إِلَى لَفْظِ الظِّهَارِ فَيُكَرِّرَهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ حَزْمٍ وَقَوْلُ دَاوُدَ وَحَكَاهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ وَالْفَرَّاءِ وَفِرْقَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ أَنْ يُمْسِكَهَا بَعْدَ الظِّهَارِ زَمَانًا يُمْكِنُهُ أَنْ يُطَلِّقَ فِيهِ فَلَا يُطَلِّقَ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: هُوَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْجِمَاعِ أَوْ يَعْزِمَ عَلَيْهِ فَلَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى يُكَفِّرَ بِهَذِهِ الْكَفَّارَةِ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ العزم على الجماع والإمساك، وَعَنْهُ أَنَّهُ الْجِمَاعُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الظِّهَارِ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ وَرَفْعِ ما كان عليه أمر الجاهلية، فمتى ظاهر الرَّجُلُ مِنِ امْرَأَتِهِ فَقَدْ حَرَّمَهَا تَحْرِيمًا لَا يَرْفَعُهُ إِلَّا الْكَفَّارَةُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَصْحَابُهُ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ: حَدَّثَنِي عَطَاءٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا يَعْنِي يُرِيدُونَ أَنْ يَعُودُوا فِي الْجِمَاعِ الَّذِي حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَعْنِي الْغِشْيَانَ فِي الْفَرْجِ وَكَانَ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يُغْشَى فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا وَالْمَسُّ النِّكَاحُ، وَكَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَبِّلَهَا وَلَا يَمَسَّهَا حَتَّى يُكَفِّرَ.
وَقَدْ رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي ظَاهَرْتُ مِنِ امْرَأَتِي فَوَقَعْتُ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ أُكَفِّرَ. فَقَالَ: «مَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ» قَالَ:
رَأَيْتُ خَلْخَالَهَا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ. قَالَ: «فَلَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» «١»، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا، قَالَ النَّسَائِيُّ: وَهُوَ أولى بالصواب.
وقوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أَيْ فَإِعْتَاقُ رَقَبَةٍ كَامِلَةٍ مِنْ قبل أن يتماسا، فههنا الرَّقَبَةُ مُطْلَقَةٌ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِالْإِيمَانِ وَفِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ مُقَيَّدَةٌ بِالْإِيمَانِ، فَحَمَلَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ما أطلق هاهنا عَلَى مَا قُيِّدَ هُنَاكَ لِاتِّحَادِ الْمُوجَبِ وَهُوَ عِتْقُ الرَّقَبَةِ، وَاعْتَضَدَ فِي ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ عن مالك بسنده

(١) أخرجه أبو داود في الطلاق باب ١٧، والترمذي في الطلاق باب ١٩، وابن ماجة في الطلاق باب ٢٥، والنسائي في الطلاق باب ٣٣.


الصفحة التالية
Icon