وسابعها: أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال، فإن اللسان لا يمل والجوارح لا تتعب، بخلاف ما إذا رفع صوته فإنه قد يكلّ لسانه وتضعف بعض قواه. وهذا نظير من يقرأ ويكرر رافعا صوته، فإنه لا يطول له ذلك بخلاف من يخفض صوته.
وثامنها: أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات والمضعفات. فإن الداعي إذا أخفى دعاءه لم يدر به أحد فلا يحصل له هناك تشويش ولا غيره، وإذا جهر به تفطنت له الأرواح الشريرة والباطولية الخبيثة من الجن والإنس، فشوشت عليه ولا بد، ومانعته وعارضته ولو لم يكن من ذلك إلا أن تعلقها به يفرق عليه همته فيضعف أثر الدعاء لكفى. ومن له تجربة يعرف هذا. فإذا أسر الدعاء وأخفاه أمن هذه المفسدة.
وتاسعها: أن أعظم النعم هو الإقبال على الله، والتعبد له، والانقطاع إليه والتبتل إليه. ولكل نعمة حاسد على قدرها، دقت أو جلت، ولا نعمة أعظم من هذه النعمة. فأنفس الحاسدين المنقطعين متعلقة بها، وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد وأن لا يقصد إظهارها له. وقد قال يعقوب ليوسف: لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ وكم من صاحب قلب وجمعية وحال مع الله قد تحدث بها وأخبر بها فسلبه إياها الأغيار، فأصبح يقلب كفيه. ولهذا يوصي العارفون والشيوخ بحفظ السر مع الله وأن لا يطلعوا عليه أحدا ويتكتمون به غاية التكتم كما أنشد بعضهم في ذلك:
من سارروه فأبدى السر مجتهدا | لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا |
وأبعدوه فلم يظفر بقربهم | وأبدلوه مكان الإنس إيحاشا |
لا يأمنون مذيعا بعض سرهم | حاشا ودادهم من ذلكم حاشا |