أي ما هذه الصيحة مع أنه حمل أصل على فرع فلأن يجوز تأويل مؤنث بمذكر لكونه حمل فرع على أصل أولى وأحرى وهذا وجه وجيه.
وقد اعترض عليه باعتراضين فاسدين غير لازمين.
أحدهما: أنه لو جاز تأويل المؤنث بمذكر يوافقه وعكسه لجاز أن يقال: كلمتني زيد، وأكرمتني عمرو، وكلمني هند وأكرمني زينب، تأويلا لزيد وعمرو بالنفس والجثة وتأويلا لهند وزينب بالشخص والشبح. وهذا باطل، وهذا الاعتراض غير لازم، فإنهم لم يدّعوا إطراد ذلك وإنما ادّعوا أنه مما يسوغ أن يستعمل، وفرق بين ما يسوغ في بعض الأحيان وبين ما يطرد، كرفع الفاعل ونصب المفعول وهم لم يدعوا أنه من القسم الثاني.
ثم إن هذا الاعتراض مردود بكل ما يسوغ استعماله بمسوغ وهو غير مطرد وهو أكثر من أن يذكر هاهنا ولا ينكره نحوي أصلا. وهل هذا إلا اعتراض على قواعد العربية بالتشكيكات والمناقضات؟ وأهل العربية لا يلتفتون إلى شيء من ذلك. فلو أنهم قالوا يجوز تأويل كل مؤنث بمذكر يوافقه وبالعكس لصح النقض وإنما قالوا يسوغ أحيانا تأويل أحدهما بالآخر لفائدة يتضمنها التأويل كالفائدة التي ذكرناها من تأويل الرحمة بالإحسان.
الاعتراض الثاني: أن حمل الرحمة على الإحسان إما أن يكون حملا على حقيقته أو مجازه وهما ممتنعان. فإن الرحمة والإحسان متغايران لا يلزم من أحدهما وجود الآخر، لأن الرحمة قد توجد وافرة في حق من لا يتمكن من الإحسان كالوالدة العاجزة ونحوها. وقد يوجد الإحسان ممن لا رحمة في طباعه كالملك القاسي فإنه قد يحسن إلى بعض أعدائه وغيرهم لمصلحة ملكه مع أنه لا رحمة عنده. وإذا تبين انفكاك أحدهما عن الآخر لم يجز إطلاقه عليه لا حقيقة ولا مجازا. أما الحقيقة فظاهر. وأما المجاز: فإن شرطه خطور المعنى المجازي بالبال ليصح انتقال الذهن إليه فإذا كان منفكا عن الحقيقة لم يخطر بالذهن.