ثم بعد سنوات سيخلّص موسى بني إسرائيل جميعا من يد فرعون، ويخلع عنهم ثوب الذّلة والهوان الذي ألبسهم إياه فرعون.. ولكنهم لا يكادون يخرجون من هذا البلاء، وينسمون أنسام العافية، حتى يديروا ظهورهم إلى موسى، وحتى يرجموه بكل ما انطوت عليه نفوسهم من خبث ومكر، فيرميهم الله سبحانه بالتّيه أربعين سنة في الصحراء، ويضربهم بالذلة والمسكنة..
هكذا القوم، يفسدهم الإحسان، وتبطرهم النعمة، فيلدغون اليد التي تطعمهم، وينفثون سمومهم فيمن يحسن إليهم! ومن يدرى؟ فلعل الإسرائيلى تبع موسى بالأمس بعد أن تخلّص من المصري القتيل، وعرف من هو.. ثم ظل يتبع خطاه، حتى كان صباح اليوم الثاني، فلما رأى موسى اصطنع اشتباكا بينه وبين أحد المصريين، وذلك عن نية مبيتة، وتدبير مقصود، كما سنرى.
قوله تعالى:
«فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ.. إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ».
لم نجد عند المفسّرين مفهوما لهذه الآية، نطمئن إليه، ونجد فيه هذا التجاوب والانسجام بين آيات القرآن الكريم وكلماته..
والمقولة التي تكاد تلتقى عندها الآراء، هى أن الإسرائيلى، حين استصرخ موسى، ثم سمع من موسى قوله له: «إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ» توقع الشر من موسى..
ثم إن موسى لما اتجه إليهما، يريد أن يبطش بالمصري، ظن الإسرائيلى أنه يريد البطش به هو بعد أن رماه بقوله: «إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ» - وهنا صرخ في وجه موسى: «يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ؟..»