فكيف يسوغ له أن يقول إن هذا التجاوب بين الموجودات، وهذا النظام الذي يمسك بها، ويولّف منها نغما موسيقيا منسجما- هو من عمل الطبيعة ذاتها؟ إن هذا يعنى أن الطبيعة عاقلة، حكيمة، مدبرة، عالمة، قادرة.. وهذه هى بعض صفات الألوهية.. فلم تسمّى إذن الطبيعة طبيعة، ولا تسمى إلها؟
إن المسافة قريبة جدا هنا بين الطبيعة وبين الإله.. وإنه لأقرب إلى العقل والمنطق أن يقوم على الموجود مدبّر واحد، يولف بين وحداته، ويجمع بين أشتاته، بدلا من قيام مدبرات تقوم في وحدات الطبيعة، وتجعل منها نظاما واحدا! - وفي قوله تعالى: «ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ».
إشارة إلى أن أمر الله وسلطانه، الذي تقوم به السموات والأرض، أن تدعوا من القبور بعد موتكم، دعوة واحدة، فإذا أنتم قيام تنظرون..
وهذا يعنى أن البعث بعد الموت، نظام قائم في هذا الوجود، أشبه بنظام دوران الكواكب في أفلاكها، والليل والنهار في فلكهما.
وفي العطف «بثم» إشارة إلى أن هذه الدعوة التي يدعى بها الموتى لم يجى وقتها بعد، وأنها أمر مستقبل، لا يعلم أحد متى يكون.. وإن كان من المعلوم أنها لا تقع إلا بعد أن يموت الناس جميعا.. وفي تصدير الجملة الخبرية «إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ» بأداة المفاجأة «إذا» - إشارة إلى أن البعث من القبور سيعقب الدّعوة مباشرة، بلا مهل... كما يقول سبحانه: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ» (٥١: يس). والفجاءة إنما نقع على أولئك الذين لا يرجون بعثا، ولا يؤمنون بالحياة الآخرة..
ولهذا فهم إذا بعثوا أخذهم الدهش والعجب، وقالوا ما حكاه القرآن الكريم عنهم: «يا وَيْلَنا.. مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟» (٥٢: يس)..