الإنسان هنا.. إن أقرب شىء إليه، وأعزّه إلى نفسه، ليقدّمه فى غير وعى، ليدفع به هذا العذاب الذي يأكله، كما تأكل النار الحطب! إنه لا يملك غير نفسه، وقد احتواها العذاب! فهل يحرص بعد هذا على شىء؟.
إنه يود أن لو كان بين يديه أبناؤه.. إذن لا تقى بهم هذا العذاب، ولجعلهم دريئة له، يتلقون عنه ألسنة اللهب، ووهج السعير..
ولكنه إذ يرمى بأبنائه فى جهنم ثم لا يجد فيهم غناء، يمد يده إلى من هم أبعد إليه منهم.. إنها صاحبته، أي زوجه، وأم بنيه، ثم هى زوج وصاحبة معا، قد سكن إليها، وتعلق قلبه بها، وليست مجرد زوجة!.
ثم ماذا؟ إنها لم تغن عنه شيئا.. وها هو ذا يمدّ يده إلى من هم أبعد من بنيه، وصاحبته.. إلى أخيه.. ثم إلى أهله وعشيرته.. ثم إلى كل من تطوله يده من قريب أو بعيد.. ثم لا يزال هكذا حتى يأتى على كل ما فى الأرض، من أنفس، ومتاع..
إن هذا الترتيب المتتابع فى تقديم ضحايا الفداء، لا يمكن أن يقع على هذا الوجه إلا بحساب دقيق محكم لاتجاهات النفس، وإلا بتقدير واقعي لارتباطها الشعورى بكل ضحية يضحّى بها فى هذا المقام.
وقد يبدو غريبا- فى ظاهر الأمر- أن يقدّم الإنسان أول ما يقدم للفداء والتضحية، أعزّ شىء لديه، وهم أبناؤه، وقد كان المتوقع أن يضنّ بهم، أو أن يجعلهم آخر سهم يرمى به فى وجه هذا الهلاك الذي يحتويه!! وهذا الحساب إنما يجرى على هذا الوجه، حين تكون الأمور على ما ألف الناس، وحين يكون فى الأمر شىء من السّعة، ولو كان بمقدار سمّ الخياط..


الصفحة التالية
Icon