إن علماء البلاغة يقولون: إن الواو لا تفيد ترتيبا ولا تعقيبا، وأنها لمطلق الجمع.. وربما كان هذا حقّا.. وهو حق فعلا، ولكنه فى مجال الكلام الذي يكال كيل التمر، ولا يوزن وزن الدّر، والذهب. أما حين يرتفع مستوى الكلام إلى أعلى منازل البلاغة، ثم يجاوزها فيكون من كلام الله سبحانه فى كتابه الكريم، فإن الأمر يختلف، حيث يكون لكل حركة معنى، ولكل وضع من النظم مقصدا، لا يتحقق إلّا به.
فالواو فى القرآن الكريم، صالحة فى أغلب الأحيان، لأن تفيد الترتيب والتعقيب، فتجعل للمتقدم وضعا غير وضع المتأخر، ومع اشتراكهما فى الحكم، فإنهما على درجات فى هذا الحكم، وتلك خاصة من خصائص البيان القرآنى، وسر من أسراره، لا يشاركه فيه غيره من شعر أو نثر..
وهكذا فرّق أصحاب البصر بكتاب الله بين المتعاطفين بالواو، وجعلا لكل منهما مكانا خاصا من المشاركة فى الحكم الذي اشتركا فيه..
فأبو بكر رضى الله عنه، يقيم حجته على الأنصار، بتقديم المهاجرين عليهم من قوله تعالى: «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ» - فيقول لهم:
«أسلنا قبلكم، وقدّمنا فى القرآن عليكم».. وقد سلّم الأنصار له بهذه الحجة ولم ينازعوه فيها..
وإذن، فهذا الترتيب الذي جاءت عليه الآيات الكريمة فى الموضعين السابقين هو ترتيب لازم، وإن كانت الواو هى أداة العطف فى هذا الترتيب! ثم لعلّ سائلا يسأل: إذا كان هذا الترتيب لازما، فلماذا لم يجىء العطف بالفاء ليكون ذلك أدلّ على المراد، وأبلغ فى بيان المطلوب؟
وأكاد أوثر ألّا أجيب على هذا التساؤل، وأدع السرّ الإعجازي للعطف