والسؤال هنا: كيف يجادلون فى الحق بعد ما تبين لهم؟ وكيف يكونون مؤمنين مع هذا؟ وهل من شأن المؤمن أن يجادل فى الحق إذا عرف وجهه، واستبان له طريقه؟
والجواب:
أن الحقّ- وهو قتال المشركين- كان أمره ظاهرا لهم، بعد أن أفلتت منهم العير، إذ كان الله- سبحانه- قد وعدهم على لسان نبيّه الكريم بأنّهم سيظفرون بإحدى الطائفتين، إما العير، وإما النفير.. فلما أفلتت منهم العير، لم يبق إلا النفير والحرب.. فهذا حق مستيقن لهم، لاخفاء فيه.
ولكن يقوم إلى هذا الحق، تلك الرغبة القوية التي كانت مستولية على المؤمنين من قبل، وهى الاستيلاء على العير، وذلك شأن النفس دائما حين يكون خيارها بين أمرين، أحدهما محبوب، والآخر مكروه.. فإنها حينئذ لا تلتفت إلى غير المحبوب، حتى ليصبح المكروه عندها كأنه غير مفترض أصلا، فتنساه، أو تتناساه.. فإذا فاجأها هذا المكروه الذي أخرجته من حسابها وتقديرها، كان وقعه شديدا عليها، حتى لكأنه حدث طارئ لم تكن تتوقعه.. ومن هنا يكون إنكارها أو تنكرها له.
ولهذا جاء قوله تعالى: «كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ» - جاء كاشفا عن تلك الحال التي استولت على بعض المؤمنين، الذين وجدوا أمر القتال ثقيلا باهظا، حيث تمثلت لهم مصارعهم، وشهدوا الموت عيانا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى بعد هذه الآية:
«وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ».