وهم أمم، ويكون منهم الذين يتخلّون عن نصيبهم من السلام، ويتعرّون عن حظهم من البركة، فيكفرون بالله، فيمتعهم الله فى الدنيا هذا المتاع القليل، ثم يلقون العذاب الأليم فى الآخرة، جزاء كفرهم بالله..! وهم أمم أيضا.
وفى هذا إشارة إلى نوح وابنه.. وأن نوحا إذا كان ممن ألبسهم الله لباس السلام والبركة، فإن ذلك ليس مما يرثه الأبناء عن الآباء.. وأن المؤمن قد يكون من ذريته المؤمن والكافر.. كما أن الكافر قد يكون من ذريته الكافر والمؤمن.. وفى هذا إشارة ثالثة إلى أن للإنسان إرادة، وله سعى وعمل، وأنه بإرادته وسعيه وعمله، يأخذ الطريق الذي يريده، ويخرج به عن حكم الوراثة، الذي إن تسلط على جميع الكائنات الحية، وألزم الخلف منها طريق السلف، فإنه لن يتسلط على الإنسان، ذى العقل، والإدراك، والإرادة..
هذا، ومن إعجاز الصياغة فى النظم القرآنى، أنك تقرأ قوله تعالى: «قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ» - فتجد هذا النغم الموسيقى الهادر، فى وقار وسكينة وجلال، أشبه بأنفاس الموج، وقد أخذت تهدأ بعد انحسار العاصفة! ففى الآية الكريمة سبعة عشر ميما، موزّعة بين حروفها، هذا التوزيع الذي يقيم منها ذلك النغم الرائع، الذي يصحب السفينة فى عودتها إلى موطن السلامة والأمن، وكأنه أهازيج النصر، ينشدها العائدون من أرض المعركة، بعد قتال ضار مرير! قوله تعالى: «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا.. فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ».