يحجب الأبصار، فإن مع الأبصار التي حجبها الليل أسماعا، لا يعطّل وظيفتها ظلام الليل، بل سكونه يزيد من قدرتها على التقاط الأصوات، والإمساك بها.. ولعلّ هذا هو ما نلمحه فى قوله تعالى للوط عليه السلام: «فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ» (٨١: هود) وقوله تعالى لموسى عليه السلام: «فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ» (٢٣: الدخان).. فقد جاء الأمر إلى النّبيّين الكريمين بالسّرى ليلا، ليكون اللّيل ستارا لهذا السير، إلى جانب ما يكون من حذر وحيطة واحتراس، فى إخفاء كل حركة، وكل صوت، ينبىء عن هذا السير، أو السّرى..! ومن هنا سمّى النّبع الجاري فى سلاسة، ورفق- سمّى «سريّا» كما يقول سبحانه وتعالى لمريم: «فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا» (٢٤: مريم).
وقد توسعنا فى شرح كلمة «أسرى» وفى قيدها بظرف الليل، لندرك السرّ فى قوله تعالى: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا» وأن قيد السّرى هنا بالليل، وجعله وعاء حاويا له، لم يكن توكيدا للخبر بأن الإسراء كان بالليل، كما يقول بذلك المفسّرون، فهذا الظرف- فى رأيهم على هذا القول- ليس له أثر فى معنى لفظ «الإسراء».. إذ الإسراء أو السّرى- عندهم- لا يكون إلا ليلا.. فكلمة «ليلا» عندهم لمجرد التوكيد، بالتكرار!! وقد رأيت أن معنى الإسراء، أو السّرى، هو الخفاء، وأنه مشتق من السّرّ، وأنه وإن غلب السّرى على اللّيل، فإن ذلك لا يمنع من أن يكون بالنّهار إذا وقع الأمر فى ستر من الخفاء، غير هذا الستر الطبيعي الذي يتّخذ من الليل..