إجماعيا لا تردد فيه على إلقائه فى غيابة الجب، نفذوا ذلك وحينئذ أوحينا إليه وحيا إلهاميا تطييبا لقلبه وتثبيتا لنفسه: لا تحزن مما أنت فيه، فإن لك من ذلك فرجا، ومخرجا حسنا، وسينصرك الله عليهم، ويرفع درجتك، وستخبرهم بما صنعوا وهم لا يشعرون بأنك يوسف.
وفى هذا إيماء إلى أنه سيخلص من هذه المحنة ويصيرون تحت سلطانه وقهره.
(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ. قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) أي جاءوه وقت العشاء حين خالط سواد الليل بياض النهار- حال كونهم يبكون ليقنعوه بما يريدون قائلين له: إنا ذهبنا من موضع اجتماعنا نتسابق ونترامى بالنبال، وتركنا يوسف عند ثيابنا وأزوادنا ليحفظها، إذ لا يستطيع مجاراتنا فى استباقنا الذي يرهق القوى فأكله الذئب، إذ بعدنا عنه ولم نسمع استغاثته ولا صراخه، ونحن نعلم أنك لا تصدقنا ولو كنا عندك صادقين، فكيف وأنت تتهمنا فى ذلك؟ ولك العذر فى هذا لغرابة ما وقع، وعجيب ما اتفق لنا فى ذلك الأمر.
(وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) أي إنهم جاءوا بقميصه ملطّخا ظاهره بدم غير دم يوسف، وهم يدّعون أنه دمه، ليشهد بصدقهم، فكان دليلا على كذبهم، ومن ثم قال: (عَلى قَمِيصِهِ) ليستبين للقارىء والسامع أنه موضوع وضعا متكلّفا، إذ لو كان من افتراس الذئب لتمزّق القميص، وتغلغل الدم فى كل قطعة منه، ومن أجل هذا كله لم يصدقهم وقال: هيهات، ليس الأمر كما تدعون، بل سهلت لكم أنفسكم الأمّارة بالسوء أمرا نكرا وزيّنته فى قلوبكم فطوعته لكم حتى اقترفتموه، وسأصبر صبرا جميلا على هذا الأمر الذي اتفقتم عليه حتى يفرّجه الله بعونه ولطفه، وإنى أستعين به على أن يكفينى شر ما تصفون من الكذب.