وفي هذا إيماء إلى أن هذا التولي لم يكن عارضا يرجى زواله، بل ذلك دأبهم فى عامة أحوالهم.
وإنما جىء بكلمة (فريق) للإشارة إلى أن هذا التولي لم يكن وصفهم جميعا فقد كان منهم طائفة يهدون بالحق، ومنهم من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر أسباب هذا التولي فقال:
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) أي إن ذلك الإعراض والتولي إنما حدث لهم بسبب هذا القول الذي رسخ اعتقادهم له، فلم يبالوا معه بارتكاب المعاصي والذنوب.
وخلاصة ذلك- إنهم استخفوا بالعقوبة واستسهلوها اتكالا على اتصال نسبهم بالأنبياء، واعتمادا على مجرد الانتساب إلى هذا الدين، واعتقدوا أن هذا كاف في نجاتهم.
ومن استخفّ بوعيد الله زعما منه أنه غير نازل حتما بمن يستحقه- تزول من نفسه حرمة الأوامر والنواهي، فيقدم بلا مبالاة على انتهاك حرمات الدين، ويتهاون فى أداء الطاعات، وهكذا شأن الأمم حين تفسق عن دينها ولا تبالي باجتراح السيئات، وقد ظهر ذلك في اليهود ثم في النصارى ثم في المسلمين، فإن كثيرا من المسلمين اليوم يعتقدون أن المسلم المرتكب لكبائر الإثم والفواحش إما أن تدركه الشفاعات أو تنجيه الكفارات، وإما أن يمنح العفو والمغفرة إحسانا من الله وفضلا، فإن فاته ذلك عذب على قدر خطيئته ثم يخرج من النار ويدخل الجنة، وأما المنتسبون إلى سائر الأديان فهم خالدون في النار مهما كانت أعمالهم.
والقرآن قد ناط أمر الفوز والنجاة من النار بالإيمان الذي ذكر الله علاماته وصفات أهله، وبالعمل الصالح والخلق الفاضل، وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن كما جعل المغفرة لمن لم تحط به خطيئته.
أما الذين صار همهم إرضاء شهواتهم، ولم يبق للدين سلطان على نفوسهم فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.


الصفحة التالية
Icon