وقيل: وجه الإعجاز راجع إلى التأليف الخاص به لا مطلق التأليف، بأن اعتدلت مفرداته تركيبا وزنة، وعلة مركباته معنى بأن يوقع كل فن فى مرتبته العليا فى اللفظ والمعنى.
وقيل: الصحيح والذى عليه الجمهور والحذّاق فى وجه إعجازه، أنه بنظمه وصحة معانيه، وتوالى فصاحة ألفاظه، وذلك أن اللَّه أحاط بكل شىء علما، وأحاط بالكلام كله، فإذا ترتيب اللفظة من القرآن علم بإحاطته أى لفظة تصلح أن تلى الأولى وتبين المعنى بعد المعنى، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره، والبشر يعمهم الجهل والنسيان والذهول. ومعلوم ضرورة أن أحدا من البشر لا يحيط بذلك، فبهذا جاء نظم القرآن فى الغاية القصوى من الفصاحة، وبهذا يبطل قول من قال: إن العرب كان فى قدرتها الإتيات بمثله فصرفوا عن ذلك. والصحيح أنه لم يكن فى قدرة أحد قط، ولهذا ترى البليغ ينقح القصيدة أو الخطبة حولا، ثم ينظر فيها فيغير فيها وهلم جرّا، وكتاب اللَّه تعالى لو نزعت منه لفظة، ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم يوجد، ونحن يتبين لنا البراعة فى أكثر ويخفى علينا وجهها فى مواضع لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ فى سلامة الذوق وجودة القريحة، وقامت الحجة على العالم بالعرب إذا كانوا أرباب الفصاحة ومظنة المعارضة، كما قامت الحجة فى معجزة موسى بالسحرة، وفى معجزة عيسى بالأطباء، فإن اللَّه إنما جعل معجزات الأنبياء بالوجه الشهير أبدع ما يكون فى زمن النبى الذى أراد إظهاره، فكان السحر قد انتهى فى مدة موسى إلى غايته، وكذلك الطب فى زمن عيسى، والفصاحة فى زمن محمد صلّى اللَّه عليه وسلم.
وقيل: وجه الإعجاز فى القرآن من حيث استمرت الفصاحة والبلاغة فيه من جميع أنحائها فى جميعه استمرارا لا يوجد له فترة، ولا يقدر عليه أحد من البشر، وكلام العرب ومن تكلم بلغتهم لا تستمر الفصاحة والبلاغة فى جميع أنحائها فى العالى منه إلا فى الشىء اليسير المعدود، ثم تعرض الفترات الإنسانية فينقطع طيب الكلام ورونقه، فلا تستمر لذلك الفصاحة فى جميعه، بل توجد فى تفاريق وأجزاء منه.
وقيل: الجهة المعجزة فى القرآن تعرف بالتفكير فى علم البيان، وهو كما اختاره جماعة فى تعريفه: ما يحترز به عن الخطأ فى تأدية المعنى وعن تعقيده،