درجات الرسل وسموّ طبقاتهم فقال: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً الآية أي جعلهم صفوة خلقه والمختارين من بينهم تمثيلا بما يشاهد من الشيء الذي يصفى وينقى من الكدورة، وذلك باستخلاصهم من الصفات الذميمة وتحليتهم بالخصال الحميدة كقوله: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: ١٢٤] وقيل: المعنى أن الله اصطفى دين آدم ودين نوح ولكن الأصل عدم الإضمار. وذكر الحليمي في كتاب المنهاج أن الأنبياء عليهم السلام مخالفون لغيرهم في القوى الجسمانية والقوى الروحانية. أما القوى الجسمانية فهي إما مدركة أو محركة. أما المدركة فهي الحواس الظاهرة أو الباطنة أما الظاهرة
فقوله ﷺ «زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها» «١»
وقوله: «أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري» «٢»
وهذا يدل على كمال القوة الباصرة ونظيرها ما حصل لإبراهيم عليه السلام وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام: ٧٥] ذكروا في تفسيره أن الله تعالى قوّى بصره حتى شاهد جميع الملكوت وليس بمستبعد، فإنه يروى أن زرقاء اليمامة كانت تبصر من مسيرة ثلاثة أيام. ويقال: إن النسر وغيره من عظام الجوارح يرتفع فيرى صيده من مائة فرسخ.
وقال صلى الله عليه وسلم: «أطت السماء وحق لها أن تئط» «٣»
فسمع أطيط السماء.
ومثله ما زعمت الفلاسفة أن فيثاغورس راض نفسه حتى سمع حفيف الفلك. وقد سمع سليمان كلام النمل وفهمه.
ومثله ما يروى أن النبي ﷺ تكلم مع الذئب ومع البعير، وقد وجد يعقوب ﷺ ريح يوسف من مسيرة أيام. وقال ﷺ «إن هذا الذراع يخبرني أنه مسموم» «٤»
وهو دليل كمال قوة الذوق. وجعل النار بردا وسلاما على إبراهيم، قيل: وهو دليل قوة اللمس كما في النعامة والسمندل وفيه نظر، إذ لا إدراك هاهنا فكيف يستدل به على قوة الإدراك؟ بل يجب أن يحمل هذا على معنى آخر وهو أنه تعالى لا يبعد أن يجعل المنافي ملائما للإعجاز أو لخاصية أودعها في المنافي حتى يصير ملائما. وأما الحواس الباطنة فمنها قوة الحفظ قال تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الأعلى: ٦] ومنها قوة الذكاء
قال علي رضي

(١) رواه أحمد في مسنده (٥/ ٢٧٨، ٢٨٤).
(٢) رواه البخاري في كتاب الأذان باب ٧٦. النسائي في كتاب الإمامة باب ٢٨، ٤٧. أحمد في مسنده (٢/ ٩٨).
(٣) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب ٩. ابن ماجه في كتاب الزهد باب ١٩. أحمد في مسنده (٥/ ١٧٣).
(٤) رواه البخاري في كتاب الهبة باب ٢٨. الدارمي في كتاب المقدمة باب ١١. أحمد في مسنده (٢/ ٤٥١).


الصفحة التالية
Icon