ذلك. والغرض أنه سبحانه عالم بأحوال الشافع والمشفوع له فيما يتعلق باستحقاق الثواب والعقاب، لأنه عالم بجميع المعلومات لا يخفى عليه خافية، والشفعاء لا يعلمون من أنفسهم أن لهم من الطاعة ما يستحقون به هذه المنزلة العظيمة عند الله ولا يعلمون أن الله تعالى أذن لهم في تلك الشفاعة أم لا، فإنهم لا يحيطون بشيء من علمه، أي من معلوماته، إلا بما علم كقوله: لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا [البقرة: ٣٢] ويحتمل أن يراد: ولا يعلمون الغيب إلا بإعلامه كقوله: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن: ٢٦] وإذا كان الشفعاء وهم الملائكة والأنبياء لا يعلمون شيئا إلا بتعليم الله فغيرهم بعدم العلم أولى.
ثم إنه لما بين كمال ملكه وحكمه في السموات وفي الأرضين ذكر أن ملكه فيما عدا السموات والأرضين أعظم وأجلّ، وأنّ ذلك مما ينقطع دون الإيماء إلى أدنى درجة من درجاتها أوهام المتوهمين، فقال وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ يقال وسع فلان الشيء إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به.
قال صلى الله عليه وسلم: «لو كان موسى حيّا ما وسعه إلا اتباعي»
أي:
لم يحتمل غير ذلك. وأما «الكرسي» فأصله من التركب والتلبد، ومنه الكرس بالكسر للأبوال والأبعار يتلبد بعضها على بعض، والكراسة لتراكب بعض أوراقها على بعض، والكرسي لما يجلس عليه لتركب خشباته. وللمفسرين في معناه هاهنا أقوال: فعن الحسن أنه جسم عظيم يسع السموات والأرض وهو نفس العرش لأن السرير قد يوصف بأنه عرش وبأنه كرسي لأن كل واحد منهما يصح التمكن عليه. وقيل إنه دون العرش وفوق السماء السابعة وقد وردت الأخبار الصحيحة بهذا. وعن السدي أنه تحت الأرض. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: الكرسي موضع القدمين وينبغي أن تحمل هذه الرواية إن صحت على ما لا يفضي إلى التشبيه ككونه موضع قدم الروح الأعظم أو ملك آخر عظيم القدر عند الله تعالى. وهاهنا أسرار لا أحبّ إظهارها لو شاء الله أن يطلع عليها عبدا من عبيده فهو أعلم بمحارم أسراره. وقيل: المراد من الكرسي أن السلطان والقدرة والملك له لأن الإلهية لا تحصل إلا بهذه الصفات، والعرب تسمّي أصل كل شيء الكرسي، أو لأنه تسمية للشيء باسم مكانه فإن الملك مكانه الكرسي. وقيل: المراد به العلم لأن موضع العالم هو الكرسي وأيضا العلم هو الأمر المعتمد عليه. ومنه يقال للعلماء: كراسي الأرض كما يقال لهم أوتاد الأرض. وقيل: المقصود من الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه ولا كرسي ثم ولا قعود ولا قاعد. واختاره جمع من المحققين كالقفال والزمخشري وتقريره: أنه يخاطب الخلق في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوا في ملوكهم فمن ذلك أنه جعل الكعبة بيتا له