الاستفهام على سبيل الإنكار يقتضي تعلقها بما قبلها. فالوجه أن هذا الميثاق لما كان مذكورا في كتبهم ولم يكن لكفرهم سبب إلا مجرد البغي والعناد، كانوا طالبين دينا غير دين الله، فاستنكر أن يفعلوا ذلك أو قرر أنهم يفعلون. ثم بيّن أن الإعراض عن دين الله خارج عن قضية العقل، وكيف لا وقد أخلص له تعالى الانقياد وخصص له الخضوع كل من سواه، لأن ما عداه كل ممكن وكل ممكن لذاته فإنه لا يوجد إلا بإيجاده ولا يعدم إلا بإعدامه، فهو ذليل بين يدي قدرته، خاضع لجلال قدره في طرفي وجوده وعدمه عقلا كان أو نفسا أو روحا أو جسما أو جواهرا أو عرضا أو فاعلا أو فعلا. ونظير الآية وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الرعد: ١٥] فلا سبيل لأحد إلى الامتناع عن مراده طَوْعاً وَكَرْهاً وهما مصدران وقعا موقع الحال لأنهما من جنس الفعل أي طائعين وكارهين كقولك: أتاني ركضا أي راكضا. ولو قلت أتاني كلاما أي متكلما لم يجز لأن الكلام ليس من جنس الإتيان. فالمسلمون الصالحون ينقادون لله طوعا فيما يتعلق بالدين وكرها في غيره من الآلام والمكاره التي تحالف طباعهم، لأنهم لا يمكنهم دفع قضائه وقدره. وأما الكافرون فينقادون في الدين كرها أي خوفا من السيف أو عند الموت أو نزول العذاب.
وعن الحسن: الطوع لأهل السموات، والكره لأهل الأرض. أقول: وذلك لأن السفلي ينجذب بالطبع إلى السفل فحمله نفسه على ما يخالف طبعه هو الكره. وبلسان الصوفية من شاهد الجمال أسلم طوعا، ومن شاهد الجلال أسلم كرها. فليس الاعتبار بذلك الإسلام الفطري بل الاعتبار بهذا الإسلام الكسبي وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ أي إلى حيث لا مالك سواه ظاهرا وباطنا، وفيه وعيد شديد لمن خالف الدين الحق إلى غيره. ثم إنه سبحانه لما بين أخذ الميثاق على الأنبياء في تصديق كل رسول كان قبله، أمر النبي ﷺ بذلك ليعرف منه غاية إذعانه ونهاية استسلامه. أما وجه التوحيد في قُلْ فظاهر، بناء على ما قلنا. وأما وجه الجمع في آمَنَّا فلتشريف أمته بانضمامهم معه في سلك الإخبار عن الإيمان، أو ليعلم أن هذا التكليف ليس من خواصه وإنما هو لازم لجميع المؤمنين كقوله: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ [البقرة: ٢٨٥] أو لإجلال قدر نبيه حيث أمر أن يتكلم عن نفسه كما يتكلم العظماء والملوك. وقدم الإيمان بالله لأنه أصل جميع العقائد، ثم ذكر الإيمان بما أنزل الله إليه لأن كتب سائر الأنبياء محرفة لا سبيل إلى معرفة أحوالها إلا بالفرقان المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر الإيمان بما أنزل على مشاهير الأنبياء إذ لا سبيل إلى حصر الكل، وفي ذلك تنبيه على سوء عقيدة أهل الكتاب حيث فرقوا بين الأنبياء فصدقوا بعضا وكذبوا بعضا، ورمز إلى أنهم ليسوا من الدين في شيء حيث خالفوا مقتضى الميثاق. ثم إن قلنا إنه تعالى أخذ الميثاق على كل نبي أن يؤمن بكل رسول جاء بعده كما ذهب إليه الجمهور في


الصفحة التالية
Icon