نفسانية، فمتى لم يحصل الإنفاق حصل الكمال الخارجي والنقصان الداخلي، وإذا حصل الإنفاق وجد الكمال الداخلي والنقصان الخارجي، فيكون الإنفاق أولى وأفضل. وأيضا متى حصلت ملكة الإنفاق زالت عن النفس هيئة الاشتغال بنعيم الدنيا والتهالك في طلبها فاستنارت بالأنوار القدسية وهذا هو الفضل. وأيضا مهما عرف من الإنسان أنه منفق كانت الهمم معقودة على أن يفتح الله عليه أبواب الرزق ولمثل ذلك من التأثير ما لا يخفى وَاللَّهُ واسِعٌ كامل العطاء كافل للخلف قادر على إنجاز ما وعد عَلِيمٌ بحال من نفق ثقة بوعده وبحال من لم ينفق طاعة للشيطان. ثم نبه على الأمر الذي لأجله يحصل ترجيح وعد الرحمن على وعد الشيطان وهو الحكمة والعقل، فإن وعد الشيطان إنما ترجحه الشهوة والنفس. عن مقاتل: إن تفسير الحكمة في القرآن على أربعة أوجه: أحدها: مواعظ القرآن وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ [البقرة: ٢٣١] وثانيها الحكمة بمعنى الفهم وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم: ١٢] وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ [لقمان: ١٢] وثالثها الحكمة بمعنى النبوة وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ
[البقرة: ٢٥١] ورابعها القرآن بما فيه من الأسرار يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم. فتأمل يا مسكين شرف العلم فإن الله تعالى سماه الخير الكثير وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً والتنكير للتعظيم. وسمى الدنيا بأسرها قليلا «قل متاع الدنيا قليل» وذلك أن الدنيا متناهية العدد، متناهية المقدار، متناهية المدة والعلوم، لا نهاية لمراتبها وعددها ومدة بقائها والسعادات الحاصلة منها. واعلم أن كمال الإنسان في شيئين: أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به. فمرجع الأول إلى العلم والإدراك المطلق، ومرجع الثاني إلى فعل العدل والصواب، ولذلك سأل إبراهيم ﷺ رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً [الشعراء: ٨٣] وهو الحكمة النظرية، وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشعراء: ٨٣] وهو الحكمة العملية. ونودي موسى عليه السلام
إنى أنا الله لا إله إلا أنا
وهو الحكمة النظرية ثم قال:
فَاعْبُدْنِي [طه: ١٤] وهو العملية. وحكي عن عيسى عليه السلام أنه قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ [مريم: ٣٠، ٣١] وكلها النظرية وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا [مريم:
٣١، ٣٢] وجميعها العملية. وقال في حق محمد صلى الله عليه وسلم: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:
١٩] وهو النظرية ثم قال وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد: ١٩] وهو العملية. وقال في حق جميع الأنبياء يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا [النحل: ٢] وأنه الحكمة العلمية ثم قال فَاتَّقُونِ [النحل: ٢] وهو الحكمة العملية.