ثبت بالتواتر أنه كان يدعي أنه رسول إلى العالمين. ويحتمل أن يقال: ما حوالي مكة يتناول جميع البلاد وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بهذا الكتاب لأن أصل الدين خوف العاقبة فمن خافها لم يزل به الخوف حتى يؤمن. وليس لأحد من الأنبياء مبالغة في تقرير قاعدة البعث والقيامة مثل محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه أن كفار مكة يبعد منهم قبول هذا الدين لأنهم كانوا لا يعتقدون البعث والحشر وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ يعني أن الإيمان بالآخرة كما أنه يحمل المكلف على الإيمان بالنبي وبالكتاب كذلك يحمله على محافظة الصلوات.
وخص الصلاة بالذكر لأنها عماد الدين وسنام الطاعات كاد المحافظ عليها أن يأتي بأخواتها كلها ويجتنب المنكرات بأسرها.
ثم ذكر ما يدل على وعيد من ادّعى النبوّة وإنزال الكتاب عليه فرية وامتراء فقال وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً قال المفسرون: نزلت في الكذابين مسيلمة الحنفي والأسود العنسي.
عن النبي ﷺ «رأيت فيما يرى النائم كأن في يدي سوارين من ذهب فكبرا علي وأهماني. فأوحى الله إلي أن انفخهما فنفختهما فطارا عني فأوّلتهما الكذابين اللذين أنا بينهما كذاب اليمامة مسيلمة وكذاب صنعاء الأسود العنسي «١» ».
أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ كان مسيلمة يقول: محمد ﷺ وآله رسول الله في بني قريش، وأنا رسول الله في بني حنيفة. واعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل من نسب إلى الله تعالى ما هو بريء منه إما في الذات وإما في الصفات وإما في الأفعال كان داخلا تحت هذا الوعيد وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ قال المفسرون: هو النضر بن الحرث كان يدعي معارضة القرآن وهو قوله لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال: ٣١]
وروي أيضا أن عبد الله بن سعد أبي سرح القرشي كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا تلا عليه «سميعا عليما» كتب هو «عليما حكيما» وإذا قال «عليما حكيما» كتب «غفورا رحيما» فلما نزل وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون: ١٢] أملاه الرسول صلى الله عليه وسلم. فلما وصل إلى قوله أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ عجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال: تبارك الله أحسن الخالقين فقال النبي ﷺ اكتبها فكذلك نزلت، فشك عبد الله وقال: لئن كان محمد ﷺ صادقا لقد أوحي إلي كما أوحي إليه، وإن كان كاذبا لقد قلت كما قال فارتد عن الإسلام ولحق بمكة. فلما دخل رسول الله ﷺ مكة فر إلى عثمان- وكان أخاه من الرضاعة- فغيبه عنده حتى اطمأن أهل

(١) رواه البخاري في كتاب المناقب باب ٢٥. كتاب المغازي باب ٧٠. مسلم في كتاب الرؤيا حديث ٢١. ابن ماجه في كتاب الرؤيا باب ١٠. أحمد في مسنده (١/ ٢٦٣)، (٢/ ٣١٩).


الصفحة التالية
Icon