وثاني الوجهين أن الإنس كانوا ينقادون للجن ويطيعون حكمهم فصار الجن كالرؤساء والإنس كالأتباع فانتفعوا بالإنس انتفاع الرئيس بالخادم، وأما انتفاع الإنس بالجن فهو أن دلوهم على الشهوات واللذات إلى أن بلغوا هذا المبلغ الذي أيقنوا أنه يسوء عاقبتهم وهذا اختيار الزجاج. والقول الثاني أن البعضين كليهما من الإنس لأن استمتاع الجن بالإنس وبالعكس أمر قليل نادر وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا أي ذلك الاستمتاع كان حاصلا إلى وقت محدود ثم جاءت الحسرة والندامة من حيث لا ينفع. وما ذلك الأجل؟ قيل: هو وقت الموت وعلى هذا فكل من مات من مقتول وغيره فإنه يموت بأجله لأنهم أقروا بأنهم بلغوا أجلهم وفيهم المقتول وغير المقتول. وقيل: هو وقت التخلية والتمكين وقيل: وقت المحاسبة في القيامة قالَ الله تعالى في جوابهم النَّارُ مَثْواكُمْ مقامكم ومقرّكم من ثوى بالمكان يثوي ثويا إذا أقام به. قال أبو علي الفارسي: المثوى اسم للمصدر دون المكان لأن قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها حال واسم الموضع لا يعمل عمل الفعل فالمعنى النار أهل أن يقيموا فيها خالدين. إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ قيل: المراد منه أوقات المحاسبة ووقت كونهم في المحشر كأنه قيل: خالدين فيها منذ يبعثون إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم ومقدار مدتهم في محاسبتهم. وقال ابن عباس: استثنى الله قوما سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي صلى الله عليه وآله. وعلى هذا يلزم أن يكون «ما» بمعنى «من» وفيه خلل آخر وهو أن الاستثناء إنما هو من يوم القيامة الذي يحشرون فيه، وقيل: المراد الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير.
روي أنهم يدخلون واديا فيه برد شديد فهم يطلبون الرد من ذلك البرد الشديد إلى حر الجحيم.
وقال في الكشاف: أو يكون هذا من قول الموتور الذي ظفر بواتره ولم يزل يحرق عليه أنيابه وقد طلب إليه أن ينفس عن خناقه أهلكني الله، إن نفست عنك إلا إذا شئت، فيكون قوله: «إلا إذا شئت» من أشد الوعيد مع تهكم لأنه إطماع محض ويأس كلي. وقال أبو مسلم: هذا الاستثناء غير راجع إلى الخلود وإنما هو راجع إلى الأجل المؤجل لهم كأنهم قالوا: وبلغنا أجلنا الذي سميته لنا إلا من أهلكته قبل الأجل المسمى يعني الآجال الاخترامية إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ فيما يفعله من ثواب وعقاب وسائر وجوه المجازاة. عَلِيمٌ بما يستأهله كل طائفة فكأنه تعالى يقول:
إنما حكمت لهؤلاء بعذاب الأبد لعلمي أنهم يستحقون ذلك. ثم لما حكى عن الجن أن بعضهم يتولى بعضا بين أن ذلك إنما حصل بتقديره وقضائه فقال: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً وذلك أن القدرة صالحة للعداوة والصداقة فترجيح أحد الجانبين لا يكون إلا بداعية خلقها الله قطعا للتسلسل، وأيضا لما بين أنه سبحانه ولي أهل الجنة بقوله: هُوَ