عذاب هذا اليوم فلم يجدوا بدا من الاعتراف فلذلك الُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
والسبب في أنهم أقروا في هذه الآية وجحدوا في قوله: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: ٢٣] هو أنهم مختلفو الأحوال في يوم القيامة مضطربون فتارة يقرّون وأخرى يجحدون. ومنهم من حمل هذه الشهادة على شهادة الجوارح عليهم. ثم أخبر الله تعالى عن حالهم في الدنيا بقوله: غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
وعن حالهم في الآخرة بقوله: شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ
والمقصود من شرح أحوالهم في القيامة زجر أمثالهم في الدنيا عن الكفر والمعصية. وقد يستدل بالآية على أن لا وجوب قبل ورود الشرع وإلا لم يكن لهذا التوبيخ والتبكيت فائدة.
التأويل:
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً في حالة العدم فَأَحْيَيْناهُ بالحياة الحقيقية أي بالحي الذي لا يموت وَجَعَلْنا لَهُ نور الوجود الحقيقي الذي يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ وبه يسمع وبه يبصر كَمَنْ هو محبوس فِي الظُّلُماتِ الطبيعة وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أي كل قالب أَكابِرَ مُجْرِمِيها من النفس والهوى والشيطان لِيَمْكُرُوا فِيها بمخالفات الشرع وموافقات الطبع. ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ من القلب والسر والروح. يَشْرَحْ صَدْرَهُ أي ينظر إلى قلبه بنظر العناية فينوّره بنور جماله وهو نور الإيمان، فيشرح الصدر بضوء النور الواقع في القلب وهذا الضوء هو المسمى بنور الإسلام. وهذا النور يقبل الزيادة والاشتداد إلى أن يصير الإيمان إيقانا والإيقان عيانا والعيان عينا. ضَيِّقاً لتزاحم ظلمات صفات البشرية حَرَجاً لتعلقاته بالدنيا وشهواتها كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ لأنه سفلي بالطبع لا يصعد إلا بالتصعيد والقسر. وَهذا الذي بينا من الهداية والضلالة صِراطُ رَبِّكَ باللطف والقهر فبجذبات اللطف يهدي السعيد وبسطوات القهر يضل الشقي. لَهُمْ دارُ السَّلامِ أي السلامة عن القطيعة في مقام العندية بالوصول إلى الوحدة بعد الخروج عن ظلمات الاثنينية. وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ في موقف القالب البشري بالحكمة البالغة والقدرة الكاملة يا مَعْشَرَ الْجِنِّ أي الصفات الشيطانية قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي غلبتم على الصفات الإنسانية وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ يعني النفس الأمارة رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ واستمتاع النفس الأمارة بالشيطان هو أن يستعين بصفات مكره على تحصيل شهواتها ولذاتها العاجلة وحظوظها، واستمتاع الشيطان بالإنس هو أن يستعين به على إضلال الحق وإغوائهم كما استعان بحواء على إغواء آدم. وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا
يعني أن مدة الاستمتاع وما جرى بيننا إنما كان بمقتضى قضائك وقدرك فأجابهم بأن الثوى في النار أيضا بقضاء الله إلا أن يشاء الله فيتوب عليهم إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ في تقدير الاستمتاع عَلِيمٌ بأهل الجنة