وأظهر من أن تخفى. وانتصب الْبَيْتَ الْحَرامَ على أنه عطف بيان على جهة المدح لا على جهة التوضيح إذ الكعبة أوضح من أن توضح، ويحتمل أن يراد بالناس عامة الناس لما يتم لهم من أمر حجهم وعمرتهم وتجارتهم وأنواع منافعهم الدينية والدنيوية. وعن عطاء بن أبي رباح: لو تركوه عاما واحدا لم ينظروا ولم يؤخروا. وتفسير الشهر الحرام والهدي والقلائد تقدم في أوّل السورة. وإنما كان الشهر الحرام سببا لقيام الناس وقوامهم لأنه إذا دخل الشهر الحرام كان يزول خوفهم ويقدرون على الأسفار وتحصيل الأقوات قدر ما يكفيهم طول السنة، فلولا حرمة ذلك لهلكوا من الجوع. وأيضا هو سبب لاكتساب الثواب من قبل مناسك الحج وإقامتها. وأما الهدي فإنه نسك للمهدي وقوام لمعايش الفقراء، وكذا القلائد فكان من قلد الهدي أو قلد نفسه من لحاء شجر الحرم لم يتعرض له أحد، وكل ذلك لأن الله تعالى أوقع في قلوبهم تعظيم الكعبة وما يتعلق بها ذلك الذي ذكر من جعل الكعبة قياما للناس أو من حفظ حرمة الإحرام والحرم مشروع لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وذلك أنه علم في الأزل أن مقتضى طباع العرب الحرص على القتل والغارة وكان ذلك مما يفضي إلى الفناء وانقطاع النسل، فدبر هذا التدبير المحكم والفعل المتقن كي يصير سببا للأمان في بعض الأمكنة وفي بعض الأزمان فتستقيم مصالح الإنسان. ولا ريب أن مثل هذا التقدير والتدبير لا يصح إلا ممن يعلم الكائنات وأسبابها وغاياتها بل يعلم المعلومات بأسرها كلياتها وجزئياتها قديمها وحديثها، عللها ومعلولها، موجودها ومعدومها، وذلك قوله وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فما أحسن هذا الترتيب! ثم خوّفهم وأطمعهم بقوله اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن انتهك محارمه وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن حافظ عليها. وذكر الوصفين في جانب الرحمة دليل على أن جانب الرحمة أغلب كما
قال «سبقت رحمتي غضبي» «١».
ثم قرر أن الرسول ما كان مكلفا إلا بالتبليغ فإذا بلغ خرج من العهدة وبقي الأمر من جانبكم وأنه تعالى يعلم جهركم وسركم، وفيه من الوعيد ما فيه،
عن جابر أن النبي ﷺ قال «إن الله عز وجل حرم عليكم عبادة الأوثان وشرب الخمر والطعن في الأنساب ألا وإن الخمر لعن الله شاربها وعاصرها وساقيها وبائعها وآكل ثمنها» «٢». فقام إليه أعرابي فقال: يا رسول الله إني كنت رجلا كانت هذه تجارتي واستفدت
(٢) رواه أبو داود في كتاب الأشربة باب ٢. الترمذي في كتاب البيوع باب ٥٨. ابن ماجه في كتاب الأشربة باب ٦. أحمد في مسنده (٢/ ٢٥، ٧١).