لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ فهذا وجه اتصال الآيات. فإن قيل: ما الحكمة في قوله لا تُحَرِّمُوا ومن المعلوم أن توسع الإنسان في اللذات والطيبات يمنعه عن الاستغراق في تحصيل السعادات الباقيات، ولهذا قالت الحكماء: إذا شبعت الأجسام صارت الأرواح أجسادا، وإذا جاعت الأجسام صارت الأجساد أرواحا؟ فالجواب أن الرهبانية المفرطة مما توقع الآفة في الأعضاء الرئيسة التي هي القلب والكبد والدماغ والأنثيان فيختل الفكر ويقل التأمل في الجواهر الروحانية ومباديها، على أن النفوس القوية لا يمنعها التصرف في الجسمانيات عن التأمل في الروحانيات. فالرهبانية دليل الضعف والقصور والكمال في الوفاء بالجهتين، وكيف والرهبانية توجب خراب الدنيا وانقطاع الحرث والنسل وترك الترهب مع رعاية وظائف الطاعة يفضي الى سعادة الدارين، قال القفال: إنه تعالى قال في أوّل السورة أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: ١] فبين أنه كما لا يجوز تحليل المحرم لا يجوز تحريم المحلل، وذلك أنهم كانوا يحللون الميتة والدم ويحرمون البحائر والسوائب.
ومعنى لا تُحَرِّمُوا لا تعتقدوا تحريم ما أَحَلَّ اللَّهُ ولا تظهروا باللسان تحريمه ولا تجتنبوه اجتنابا يشبه اجتناب المحرمات. فهذه الوجوه محمولة على الاعتقاد والقول والعمل، ويحتمل أن يراد لا تحرموا على غيركم بالفتوى، أو لا تلتزموا تحريمها بنذر أو يمين كقوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم: ١] أو لا تخلطوا المملوك بالمغصوب أو الطاهر بالنجس خلطا لا يبقى معه التمييز فإنه يحرم الكل. والطيبات المستلذات التي تشتهيها النفوس وتميل إليها القلوب. ثم نهى عن الاعتداء مطلقا ليدخل تحته النهي عن الإسراف كقوله كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف: ٣١] وكُلُوا أمر إباحة وتحليل مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ في إدخال «من» التبعيضية إرشاد إلى الاقتصاد والاقتصار في الأكل على البعض وصرف الباقي إلى المحتاجين، وفيه أنه تعالى هو الذي يرزق عبيده وتكفل برزقهم. قال في التفسير الكبير: قوله حَلالًا طَيِّباً إن كان متعلقا بالأكل كان حجة للمعتزلة على أن الرزق لا يكون إلا حلالا لأنه يدل على الإذن في أكل كل ما رزق الله تعالى وإنما يأذن في أكل الحلال فيلزم أن يكون كل رزق حلالا، وإن كان متعلقا بالمأكول أي كلوا من الرزق الذي يكون حلالا كان حجة لأصحابنا لأن التقييد يؤذن بأن الرزق قد لا يكون حلالا. أقول: هذا فرق ضعيف ولهذا قال في الكشاف: حَلالًا حال مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ مع أنه من المعتزلة. ثم أكد التوصية بقوله وَاتَّقُوا اللَّهَ وزاده تأكيدا بقوله الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ لأن الإيمان به يوجب اتقاءه في أوامره ونواهيه. ثم قال لا يُؤاخِذُكُمُ وقد ذكرنا وجه النظم آنفا، وقد تقدم معنى يمين اللغو في سورة البقرة. أما قوله بِما عَقَّدْتُمُ


الصفحة التالية
Icon