تعالى لأنه لو حاسب الكفار بذاته لتكلم معهم وهو محال لقوله وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ [البقرة:
١٧٤] وقال الحكيم: معنى سرعة المحاسبة ظهور الملكات في الهيآت على النفس في آن قطع التعلق، قليلة كانت أو كثيرة، حميدة أو ذميمة، وبعد تعارض البعض بالبعض يبقى ما هو أغلب وبحسب ذلك يكون الثواب أو ضده. وذلك أنه لا يحصل للإنسان لحظة ولا لمحة ولا حركة ولا سكون إلا ويظهر منها في جوهر نفسه أثر من آثار السعادة أو ضدها قل أو كثر وهو المراد بكتبة الأعمال. قال الجبائي- هاهنا: لو كان كلامه قديما لوجب أن يكون متكلما بالمحاسبة الآن وقبل خلقه وذلك محال لأن المحاسبة تقتضي حكاية عمل تقدم.
وعورض بالعلم فإنه كان قبل العالم عالما بأنه سيوجد وبعد وجوده صار عالما بأنه وجد ولا يلزم منه تغير العلم. ثم عدّد لطفه وإحسانه بقوله قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ مجازا عن مخاوفهما وأهوالهما يقال ليوم الكربة: يوم مظلم وذو كواكب كأنه أظلم عليه وجه الخلاص، ويحتمل أن تكون الظلمات بالحقيقة. وظلمات البر ظلمة الليل وظلمة السحاب، وظلمات البحر هما مع ظلمة الماء. تَدْعُونَهُ في موضع الحال تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً مفعول لأجلهما أو تمييز أو مصدر خاص. والمراد أن الإنسان عند حصول هذه الشدائد يأتي بأمور: أحدها الدعاء. الثاني التضرع. والثالث: الإخلاص بالقلب وهو المعني بقوله وَخُفْيَةً ورابعها: التزام الشكر هو المراد من قوله لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ الظلم والشدة لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فبين الله سبحانه أنه إذا شهدت الفطرة السليمة في هذه الحالة بأنه لا ملجأ الا إلى الله ولا معول إلا عليه وجب أن يبقى هذا الإخلاص عند كل الأحوال والأوقات. ثم بين أنه ينجيهم من تلك المخاوف ومن سائر موجبات الحزن والكرب، ثم إن ذلك الإنسان يقدم على الشرك الجلي وهو عبادة الأوثان أو الخفي وهو اتباع الهوى.
وبالجملة فعادة أكثر الخلق ذلك إذا شاهدوا الخوف أخلصوا، وإذا انتقلوا إلى الأمن والرفاهية أشركوا. ثم ذكر نوعا آخر من دلائل التوحيد مقرونا بنوع من التخويف فقال قُلْ هُوَ الْقادِرُ واللام للعهد أو للجنس فيفيد أنه هو الذي عرفتموه قادر، وهو الكامل القدرة عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ كالمطر أو الحجارة مثل ما أمطر على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ كما أغرق فرعون وخسف بقارون. وقيل: من قبل أكابركم وسلاطينكم أو من جهة سفلتكم وعبيدكم. وقيل: هو حبس المطر والنبات أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً هي جمع شيعة أي يخلطكم فرقا مختلفين على أهواء شتى، كل فرقة منكم مشايعة لإمام. ومعنى خلطهم أن يوقع القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال.
عن رسول الله ﷺ «سألت الله أن لا يبعث على أمتي عذابا من فوقهم أو من تحت


الصفحة التالية
Icon