تقدَّم نظيره في «البقرة»، وسببُ الآية، على ما حُكيَ: أنَّ اليهود قالوا لَمَّا لم يرض المنافق بحكم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: مَا رأَيْنَا أَسْخَفَ مِنْ هؤلاءِ يُؤْمنونَ بمحمَّد، ثم لا يرضَوْنَ بحُكْمه، ونحنُ قَدْ أمرنا بقَتْلٍ أَنْفُسِنا، ففَعَلْنا، وبَلَغَ القَتْلُ فينا سَبْعِينَ أَلْفاً، فقَالَ ثابتُ بْنُ قَيْسٍ: لَوْ كُتِبَ ذلك علَيْنا، لَفَعَلْنَاه، فنزلَتِ الآية مُعْلِمَةً بحالِ أولئكَ المُنَافِقِينَ، وأنه لو كُتِبَ ذلك علَى الأمَّة، لم يَفْعَلُوهُ، وما كان يَفْعَلُه إلا قليلٌ مؤمنُونَ محقِّقون كَثَابِتٍ، قُلْتُ: وفي «العتبية»، عن مالكٍ، عن أبي بَكْر (رضي اللَّه عنه) نحْوُ مقالَةِ ثابِتِ بْنِ قيسٍ، قال ابْنُ رُشْدٍ: ولا شَكَّ أنَّ أبا بَكْرٍ مِنَ القليلِ الذي استثنى اللَّهُ تعالى في الآية، فلا أحد أحقُّ بهذه الصِّفَة منه. انتهى.
قال ص: إِلَّا قَلِيلٌ: الجمهورُ بالرفْعِ، على البَدَلِ من واو «فَعَلُوهُ» عند البصريِّين «١». انتهى.
وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ: لو أنَّ هؤلاءِ المنافِقِينَ اتعظوا وأَنَابُوا، لكان خيرا لهم وتَثْبِيتاً، معناه: يقيناً وتصديقاً، ونحو هذا، أيْ: يثبِّتهم اللَّه.
ثُمَّ ذكر تعالى ما كانَ يَمُنِّ به علَيْهم من تفضُّله بالأجر، ووَصْفُهُ إياه بالعَظِيمِ مقتضٍ مَّا لا يُحْصِيه بَشَرٌ من النعيمِ المقيمِ، والصِّرَاطُ المستقيمُ: الإيمانُ المؤدِّي إلى الجنَّة، والمقصودُ تعديدُ ما كان يُنْعِمُ به عليهم سبحانه.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٦٩ الى ٧٠]
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (٧٠)
وقوله (جَلَّت عَظَمَتُهُ) : وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ... الآية: لما ذَكَر اللَّه سبحانه الأمر الذي لَوْ فَعَلُوه، لأَنعم علَيْهم، ذَكَر بعد ذلك ثَوَابَ مَنْ يفعله، وهذه الآيةُ تفسِّر قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، وقالتْ طائفة: إنما نزلَتْ هذه الآية لَمَّا قال عبد الله بن زيد الأنصاريّ

(١) وقرأ ابن عامر وجماعة: «إلا قليلا» نصبا وفيه وجهان:
أشهرهما: أنه نصب على الاستثناء، وإن كان الاختيار الرفع لأن المعنى موجود معه كما هو موجود مع النصب، ويزيد عليه بموافقة اللفظ.
والثاني: أنه صفة لمصدر محذوف تقديره: «إلا فعلا قليلا»، قاله الزمخشري، وفيه نظر إذ الظاهر: أنّ «منهم» صفة ل «قليلا»، ومتى حمل القليل على غير الأشخاص يقلق هذا التركيب إذ لا فائدة حينئذ في ذكر «منهم».
ينظر: «حجة القراءات» (٢٠٦، ٢٠٧)، «الدر المصون» (٢/ ٣٨٤).


الصفحة التالية
Icon