وقيل: إِنَّ هذا الاستثناء إِنما هو تَسَنُّنٌ وَتَأَدُّبٌ، وقوله: وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً:
معناه: وَسِعَ عِلْمُ رَبنا كلَّ شيء كما تقول: تَصَبَّبَ زَيْدٌ عَرَقاً أَيْ: تصبَّب عَرَقُ زيدٍ، وَوَسِعَ بمعنى «أحاط»، وقوله: افْتَحْ معناه: احكم، وقوله: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا:
استسلام للَّه سبحانه، وتمسُّكٌ بلطفه وذلك يؤيِّد التأويل الأول في قوله: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا. وقوله سبحانه: وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً...
الآية: أي: قال الملأ لتباعهم ومقلّديهم، والرَّجْفَةُ: الزلزلةُ الشديدةُ التي يَنَالُ الإِنسانَ معها اهتزاز وارتعاد واضطراب، فيحتملُ أنَّ فرقةً من قومٍ شُعَيْب هلكَتْ بالرجفة، وفرقةً بالظُّلَّة، ويحتمل أن الظُّلَّة والرَّجْفَة كانتا في حِينٍ واحدٍ.
ت: والرجفةُ هي الصَّيْحة يَرْجُفُ بسببها الفؤاد وكذلك هو مصرَّح بها في قصَّة قوم شُعَيْب في قوله سبحانه: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ... الآية [هود: ٩٤]، وقوله سبحانه: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الضميرْ في قوله «فيها» عائدٌ على دارِهِمْ، وَيَغْنُوا:
معناه: يقيمونَ بنَعْمَة وخَفْضِ عيش، وهذا اللفظ فيه قوَّةُ الإِخبار عن هلاكهم، ونزولِ النقمةِ بهم، والتنبيه عَلَى العبرة والاتعاظ بهم، ونحوُ هذا قولُ الشاعر: [الطويل]
كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الحَجُونِ إِلَى الصَّفَا | أَنِيسٌ وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكَّةَ سَامِرُ «١» |
واستشهد بقوله: «كأن لم يكن» حيث خفّف «كأن» فحذف اسمها، وأتى بخبرها جملة فعليّة. وذكر ياقوت في «معجم البلدان» (٢/ ٢٦٠) (الحجون)، ونسبه إلى مضّاض بن عمرو الجرهمي يتشوّق مكة لما أجلتهم عنها خزاعة:
كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الحَجُونِ إِلَى الصَّفَا | أنيس، ولم يسمر بمكة سامر |
بلى! نحن كنا أهلها، فأبادنا | صروف الليالي والجدود العواثر |
فأخرجنا منها المليك بقدرة، | كذلك، يا للناس، تجري المقادر |
فصرنا أحاديثا وكنا بغبطة، | كذلك عضّتنا السنون الغوابر |
وبدّلنا كعب بها دار غربة، | بها الذئب يعوي والعدوّ المكاشر |
فسحّت دموع العين تجري لبلدة، | بها حرم أمن وفيها المشاعر |
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٤٣٠).