- الميل والداعية والاختيار لا تأثير لقدرة العبد فيه، وإنما محل قدرته العزم المصمم، فإذا أوجد العبد ذلك العزم المصمم خلق الله له الفعل عقبه، وهذا ينطبق على كلام القاضي أبي بكر الباقلاني، لأن كون الفعل طاعة أو معصية إنما هو بالنية، والإرادة الجزئية، والعزم عنده «أي عند القاضي».
وقال بعض المحققين من أهل السنّة: الله خالق لفعل العبد الاختياري والعبد فاعل له حقيقة. وبيان ذلك أن الله خلق قدرة العبد وأذن لها أن تتصرف في المقدور حسب اختيار العبد فيكون الفعل مخلوقا لله، لأنه واقع بالقدرة التي خلقها الله فيه، وقد جعلها تتصرف في المقدور ويكون الفعل المقدور واقعا بالقدرة الحادثة، ومضافا إلى العبد كسبا وفعلا حقيقة، «ومثال ذلك» : أن العبد لا يملك التصرف في مال سيده، ولو استبد بالتصرف في مال سيده لم ينفذ تصرفه، فإذا أذن له في بيع ماله فباعه نفذ، والبيع في التحقيق معزو إلى السيد من حيث إن سببه إذنه، ولولا إذنه لم ينفذ التصرف، ولكن العبد يؤمر بالتصرف، وينهى ويوبّخ على المخالفة، فالعبد فعلها حقيقة والله خالقه، وخالق ما فعل به من القدرة والإرادة، وخالق فاعليته، والعبد غير مستقل بالإيجاد، لأن قدرته وإرادته جزء سبب أو شرط.
وقال الإمام فخر الدين محمّد بن عمر الرازي: المختار عندنا أن عند حصول القدرة والداعية المخصوصة يجب الفعل، وعلى هذا التقدير يكون العبد فاعلا على سبيل الحقيقة، ومع ذلك فتكون الأفعال بأسرها واقعة بقضاء الله تعالى وقدره، وذلك أنا لما اعترفنا بأن الفعل واجب الحصول عند مجموع القدرة والداعي فقد اعترفنا بكون العبد فاعلا وجاعلا فلا يلزمنا مخالفة ظاهر القرآن، وإذا قلنا بأن المؤثر في الفعل مجموع القدرة والداعي، مع أن هذا المجموع حصل بخلق الله تعالى، فقد قلنا بأن الكل بقضاء الله تعالى وقدره.
وقال جمهور المعتزلة: فعل العبد واقع بقدرته وحدها على سبيل الاستقلال بلا إيجاب بل باختيار.
وقال إمام الحرمين: فعل العبد واقع بقدرته وإرادته بالإيجاب استقلالا لا بالاختيار فيكون موافقا لمذهب الحكماء وهذا ما اشتهر عنه بين القوم، ولكن تحقيق مذهبه أن الخالق لفعل العبد الاختياري هو الله تعالى كما صرح به في الإرشاد، حيث قال: «اتفق أئمة السلف قبل ظهور البدع والأهواء على أن الخالق هو الله تعالى ولا خالق سواه، وأن الحوادث كلها حدثت بقدرة الله تعالى من غير فرق بين ما تتعلق به قدرة العباد، وبين ما لا تتعلق به، فإن تعلق الصفة بشيء لا يستلزم تأثيرها فيه، كالعلم بالعلوم، والإرادة بفعل الغير، فالقدرة الحادثة لا تؤثر في مقدورها، واتفقت المعتزلة ومن تابعهم من أهل الزيغ على أن العباد موجدون لأفعالهم مخترعون لها بقدرهم».
واحتج أهل الحق القائلون بأن الله هو الخالق لأفعال العباد الاختيارية بآيات كثيرة تدل على أن الله هو الخالق لأفعال العباد، وأنها داخلة تحت قدرته ومشيئته كما دخلت تحت علمه فمنها: قول الله تعالى:
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، [الزمر: ٦٢] وهذا عام لا يخرج عنه شيء من العالم، أعيانه وأفعاله وحركاته وسكناته، وليس مخصوصا بذاته وصفاته، فإنه الخالق بذاته وصفاته وما سواه مخلوق له، واللفظ قد فرق بين الخالق والمخلوق، وصفاته سبحانه داخلة في مسمى اسمه، فإن الله سبحانه اسم للإله الموصوف بكل صفة كمال، المنزه عن كلّ صفة نقص ومثال، والعالم قسمان: أعيان وأفعال، وهو الخالق لأعيانه، وما يصدر عنها من الأفعال، كما أنه العالم بتفاصيل ذلك فلا يخرج شيء منه عن علمه، ولا عن قدرته، ولا عن خلقه ومشيئته.
ومنها: قول الله تعالى حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام أنه قال لقومه: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ


الصفحة التالية
Icon