قبلنا صوم رمضان بعينه. قال ابن عباس: فقدم النصارى يوماً ثم يوماً، وأخَّروا يوماً، ثم قالوا: نقدم عشراً ونؤخر عشراً. وقال السدي عن أشياخه: اشتد على النصارى صوم رمضان، فجعل يتقلب عليهم في الشتاء والصيف، فلمّا رأوا ذلك اجتمعوا فجعلوا صياماً في الفصل بين الشتاء والصيف، وقالوا:
نزيد عشرين يوماً نكفر بها ما صنعنا، فعلى هذا تكون الآية محكمة غير منسوخة.
قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، لأن الصيام وصلة إلى التقى، إذ هو يكف النفس عن كثير مما تتطلع إليه من المعاصي، وقيل: لعلّكم تتّقون محظورات الصّوم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٤]
أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤)
قوله تعالى: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ، قال الزجاج: نصب «أياماً» على الظرف، كأنه قال: كتب عليكم الصيام في هذه الأيام. والعامل فيه «الصيام»، كأنَّ المعنى: كتب عليكم أن تصوموا أياماً معدودات. وفي هذه الأيام ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ثلاثة أيام من كل شهر. والثاني: أنها ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء. والثالث: أنها شهر رمضان، وهو الأصح، وتكون الآية محكمة في هذا القول، وفي القولين قبله تكون منسوخة. فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ، فيه إضمار: فأفطر.
فصل: وليس المرض والسفر على الإطلاق، فان المريض إذا لم يضر به الصوم لم يجز له الإفطار، وإنما الرخصة موقوفة على زيادة المرض بالصوم. واتفق العلماء أن السفر مقدر، واختلفوا في تقديره، فقال أحمد، ومالك، والشافعي: أقله مسيرة ستة عشر فرسخاً: يومان، وقال أبو حنيفة وأصحابه: أقله مسيرة ثلاثة أيام، مسيرة أربعة وعشرين فرسخاً. وقال الأوزاعي: أقله مرحلة يوم، مسيرة ثمانية فراسخ. وقيل: إن السفر مشتق من السفر الذي هو الكشف، يقال: سفرت المرأة عن وجهها، وأسفر الصبح: إذا أضاء، فسمي الخروج إلى المكان البعيد: سفراً، لأنه يكشف عن أخلاق المسافر «١».
- واختلف العلماء في الأفضل من الفطر أو الصوم في السفر فقال مالك والشافعي في بعض ما روي عنهما:
الصوم أفضل لمن قوي عليه. وجلّ مذهب مالك التخيير وكذلك مذهب الشافعي. قال الشافعي ومن اتبعه:
هو مخيّر، ولم يفصّل وكذلك ابن عليّه لحديث أنس قال: سافرنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، خرّجه مالك والبخاري ومسلم. وروي عن عثمان بن أبي العاص الثقفي وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. وروي عن ابن عمر وابن عباس: الرخصة أفضل، وقال به سعيد بن المسيب والشعبي وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة والأوزاعي وأحمد وإسحاق. كل هؤلاء يقولون الفطر أفضل لقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.