وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة وابن عامر: «يكَذِّبونك» بالتشديد وفتح الكاف وفي معناها خمسة أقوال: أحدها: لا يكذِّبونك بحجة، وإنما هو تكذيب عِناد وبَهْتٍ، قاله قتادة، والسدي. والثاني: لا يقولون لك: إنك كاذب، لعلمهم بصدقك، ولكن يكذِّبون ما جئت به، قاله ناجية ابن كعب. والثالث: لا يكذِّبونك في السر، ولكن يكذِّبونك في العلانية، عداوةً لك، قاله ابن السائب، ومقاتل. والرابع: لا يقدرون أن يقولوا لك فيما أنبأت به مما في كتبهم: كذبت. والخامس:
لا يكذِّبونك بقلوبهم، لأنهم يعلمون أنك صادق، ذكر القولين الزجاج. وقال أبو علي: يجوز أن يكون معنى القراءتين واحداً وإن اختلفت اللفظتان، إلا أن «فعّلتُ» : إذا أرادوا أن ينسبوه إلى أمر أكثر من «فعلت». ويؤكد أنَّ القراءتين بمعنىً، ما حكاه سيبويه أنهم قالوا: قلَّلتُ، وأقللت، وكثَّرتُ، وأكثرت بمعنىً. قال أبو علي: ومعنى «لا يكذِّبونك» : لا يقدرون أن ينسبوك إلى الكذب فيما أخبرتَ به مما جاء في كتبهم، ويجوز أن يكون معنى الحقيقة: لا يصادفونك كاذباً، كما تقول: أحمدت فلانا: إذا أصبتَه محموداً، لأنهم يعرفونك بالصدق والأمانة وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ بألسنتهم ما يعلمونه يقينا، لعنادهم. وفي «آيات الله» ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنها محمد صلى الله عليه وسلم، قاله السدي. والثاني:
محمد والقرآن، قاله ابن السّائب. والثالث: القرآن، قاله مقاتل.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٤]
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤)
قوله تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ هذه تعزية له على ما يلقى منهم. قال ابن عباس:
فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا رجاء ثوابي، وَأُوذُوا حتى نُشروا بالمناشير، وحُرقوا بالنار حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا بتعذيب من كذبهم.
قوله تعالى: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ فيه خمسة أقوال: أحدها: لا خُلْفَ لمواعيده، قاله ابن عباس. والثاني: لا مبدِّل لما أخبر به وما أمر به، قاله الزجاج. والثالث: لا مبدل لحكوماته وأقضيته النافذة في عباده، فعبّرت الكلمات عن هذا المعنى، كقوله تعالى: وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ أي: وجب ما قضي عليهم. فعلى هذا القول، والذي قبله، يكون المعنى: لا مبدل لحكم كلمات الله، ولا ناقض لما حكم به، وقد حكم بنصر أنبيائه بقول: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «١». والرابع:
أن معنى الكلام معنى النهي، وإن كان ظاهره الإخبار فالمعنى: لا يُبدِّلَن أحد كلمات الله، فهو كقوله:
لا رَيْبَ فِيهِ. والخامس: أن المعنى: لا يقدر أحد على تبديل كلام الله، وإن زخرف واجتهد، لأن الله تعالى صانه برصين اللفظ، وقويم الحكم، أن يختلط بألفاظ أهل الزيغ، ذكر هذه الألفاظ الثلاثة ابن الأنباري.
قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ أي: فيما صبروا عليه من الأذى فنُصروا. وقيل: إن «مِن» صلة.

(١) سورة المجادلة: ٢١.


الصفحة التالية
Icon