لا ينبغي أن يعمل الإِنسان بالإِثم، لأن غيرَه عَمِلَه، كما قال الكفار: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ «١» ومعنى حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا أي: حتى نُبيّنَ ما به نعذِّب، وما من أجله نُدخلُ الجنة.

فصل:


قال القاضي أبو يعلى: في هذا دليل على أن معرفة الله لا تجب عقلا، وإِنما تجب بالشرع، وهو بعثة الرسل، وأنه لو مات الإِنسان قبل ذلك، لم يقطع عليه بالنار «٢». قال: وقيل معناه:
أنه لا يعذِّب في ما طريقه السمع إِلاَّ بقيام حجة السمع من جهة الرسول، ولهذا قالوا: لو أسلم بعض أهل الحرب في دار الحرب ولم يسمع بالصلاة والزكاة ونحوها، لم يلزمه قضاء شيء منها، لأنها لم تلزمه إِلاَّ بعد قيام حجة السمع، والأصل فيه قصة أهل قُباء حين استداروا إِلى الكعبة ولم يستأنفوا «٣»، ولو أسلم في دار الإِسلام ولم يعلم بفرض الصلاة، فالواجب عليه القضاء، لأنه قد رأى الناس يصلُّون في المساجد بأذان وإِقامة، وذلك دعاء إِليها.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٦ الى ١٧]
وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧)
(١) سورة الزخرف: ٢٢.
(٢) قال القرطبي رحمه الله ١٠/ ٢٠٣: قوله تعالى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا أي: لم نترك الخلق سدى، بل أرسلنا الرسل. وفي هذا دليل على أن الأحكام لا تثبت إلا بالشرع خلافا للمعتزلة القائلين بأن العقل يقبّح ويحسّن ويبيح ويحظر، والجمهور على أن هذا في حكم الدنيا أي أن الله لا يهلك أمة بعذاب إلا بعد الرسالة إليهم والإنذار. وقالت فرقة: هذا عام في الدنيا والآخرة، لقوله تعالى: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا الملك: ٨. قال ابن عطية: والذي يعطيه النظر أنّ بعثه آدم عليه السلام بالتوحيد وبث المعتقدات في بنيه مع نصب الأدلة الدالة على الصانع مع سلامة الفطر توجب على كل أحد من العالم الإيمان واتباع شريعة الله، ثم تجدد ذلك في زمن نوح عليه السلام بعد غرق الكفار. وهذه الآية يعطي احتمال ألفاظها نحو هذا في الذين لم تصلهم رسالة وهم أهل الفترات. فمن لم تبلغه الدعوة فهو غير مستحق للعذاب من جهة العقل. وأما ما روي أن الله يبعث إليهم يوم القيامة وإلى المجانين والأطفال، فحديث لم يصح، ولا يقتضي ما تعطيه الشريعة من أن الآخرة ليست دار تكليف. وقد احتج من قال ذلك بحديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «يقول الهالك في الفترة لم يأتني كتاب ولا رسول- ثم تلا- وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا ويقول المعتوه رب لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرا ولا شرا، ويقول المولود رب لم أدرك العمل فترفع لهم نار فيقول لهم ردوها وادخلوها- قال- فيردها أو يدخلها من كان في علم الله سعيدا لو أدرك العمل، ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل فيقول الله تبارك وتعالى: «إياي عصيتم فكيف رسلي لو أتتكم». قلت: ضعيف. أخرجه الطبري ٢٤٤٦٦ من حديث أبي سعيد وفيه عطية العوفي ضعيف ولو صح مثل هذا لارتفع الخلاف في المولود وأهل الفترة ونحوهم. وروي عن أبي سعيد موقوفا، وفيه نظر. والله أعلم.
(٣) حديث أهل قباء تقدّم في سورة البقرة: ١٤٢. وقد خرّج البخاري ٧٢٥٢ و ٣٩٩ و ٤٤٩٢ ومسلم ٥٢٥ والترمذي ٣٤٠ و ٢٩٦٢ والنسائي ٢/ ٦٠ وابن ماجة ١٠١٠ وابن حبان ١٧١٦ كلهم من حديث البراء: أن النبي صلى الله عليه وسلّم صلّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وإنه صلى أول صلاة صلّاها العصر وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلّم فمرّ على أهل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله، لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلّم قبل البيت، فداروا كما هم قبل البيت. وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحوّل قبل البيت رجال قتلوا فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله عز وجل وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ.


الصفحة التالية
Icon