قولان: أحدهما: أنه أراد بذلك ما يكون في الدنيا. ثم فيه قولان «١» :
(١٢٦٢) أحدهما: أنه لمّا اشتدّ البلاء بأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، رأى في المنام أنه هاجر إلى أرضٍ ذاتِ نخلٍ وشجرٍ وماءٍ، فقصَّها على أصحابه، فاستبشَروا بذلك لما يلقَون من أذى المشركين. ثم إِنهم مكثوا بُرهة لا يرَوْن ذلك، فقالوا: يا رسول الله متى تُهاجِر إلى الأرض التي رأيت؟ فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تعالى: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ يعني لا أدري، أخرُجُ إِلى الموضع الذي رأيتُه في منامي أم لا؟ ثم قال: إِنما هو شيء رأيتُه في منامي، وما أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وكذلك قال عطية: ما أدري هل يتركني بمكة أو يُخرجني منها.
والثاني: ما أدري هل أُخْرَج كما أُخْرج الأنبياءُ قَبْلي، أو أُقْتَل كما قُتِلوا، ولا أدري ما يُفْعَل بكم، أتعذَّبونَ أم تؤخَّرونَ؟ أتُصدَّقونَ أم تُكذَّبونَ؟ قاله الحسن.
والقول الثاني: أنه أراد ما يكون في الآخرة.
(١٢٦٣) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لمّا نزلتْ هذه الآية، نزل بعدها لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «٢» وقال: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ... الآية «٣»، فأُعلم ما يُفْعَل به وبالمؤمنين. وقيل: إن المشركين فرحوا عند نزول هذه الآية وقالوا: ما أمْرُنا وأمْرُ محمد إلاّ واحد، ولولا أنه ابتدع ما يقوله لأخبره الذي بعثه بما يفعل به، فنزل قوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ... الآية، فقال الصحابة: هنيئاً لك يا رسول الله، فماذا يُفْعَل بنا؟ فنزلت:
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ | الآية وممن ذهب إِلى هذا القول أنس وعكرمة وقتادة. وروي عن الحسن ذلك. |
أخرجه الطبري ٣١٢٣٩ عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مختصرا، وفيه إرسال بينهما.
__________
(١) قال الطبري في «تفسيره» ١١/ ٢٧٧: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة وأشبهها بما دل عليه التنزيل، القول الذي قاله الحسن البصري. ومحال أن يقول لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قل للمشركين ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة، وآيات كتاب الله عز وجل في تنزيله ووحيه إليه متتابعة بأن المشركين في النار مخلدون، والمؤمنون في الجنان منعمون، وبذلك يرهبهم مرة، ويرغبهم أخرى، ولو قال لهم ذلك، لقالوا له: فعلام نتبعك إذن وأنت لا تدري إلى أي حال تصير غدا في القيامة. وقال ابن كثير في «تفسره» ٤/ ١٨٤: وهذا القول الذي عوّل عليه ابن جرير وأنه لا يجوز غيره، ولا شك في أن هذا هو اللائق به صلوات الله وسلامه عليه فإنه بالنسبة إلى الآخرة جازم أنه يصير إلى الجنة هو ومن اتبعه، وأما في الدنيا فلم يدر ما كان يؤول إليه أمره، وأمر مشركي قريش إلى ماذا؟ أيؤمنون أم يكفرون فيعذبون فيستأصلون بكفرهم؟
(٢) الفتح: ٢.
(٣) الفتح: ٥.
(٤) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١١/ ٢٨١: والصواب من القول في ذلك عندنا أن الذي قاله مسروق: هو موسى والتوراة، لا ابن سلام، لأنه أسلم بالمدينة والسورة مكية، في تأويل ذلك أشبه بظاهر التنزيل، لأن الآية في سياق توبيخ الله تعالى ذكره مشركي قريش، واحتجاجا عليهم لنبيه صلّى الله عليه وسلّم، وهذه الآية نظير سائر الآيات قبلها ولم يجر لأهل الكتاب ولا لليهود قبل ذلك ذكر، فتوجه الآية إلى أنها فيهم نزلت، غير أن الأخبار قد وردت عن جماعة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأن ذلك عني به عبد الله بن سلام وعليه أكثر أهل التأويل، وهم كانوا أعلم بمعاني القرآن والسبب الذي فيه نزل، وما أريد به.
- وقال القرطبي رحمه الله في «الجامع لأحكام القرآن» ١٦/ ١٦٢: ويجوز أن تكون الآية نزلت بالمدينة وتوضع في سورة مكية، فإن الآية كانت تنزل فيقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: ضعوها في سورة كذا، والآية في محاجة المشركين، ووجه الحجة أنهم كانوا يراجعون اليهود في أشياء، أي شهادتهم لهم وشهادة نبيهم هي من أوضح الحجج، ولا يبعد أن تكون السورة في محاجة اليهود.