قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ قد بيَّنّا معنى القساوة في البقرة «١». فإن قيل: كيف يقسو القلب من ذِكْر الله عزّ وجلّ؟ فالجواب: أنه كُلَّما تُلِيَ عليهم ذِكْرُ الله الذي يكذِّبونَ به، قَسَت قلوبُهم عن الإيمان به. وذهب مقاتل في آخَرِين إِلى أنَّ «مِنْ» هاهنا بمعنى «عَنْ» قال الفراء: كما تقول: أُتْخِمْتُ عن طعام أكلتُه، ومِنْ طعام أكلتُه وإِنما قَسَت قلوبُهم مِنْ ذِكْر الله، لأنهم جعلوه كذباً فأقسى قلوبَهم ومن قال: قست قلوبهم عنه، أراد: أعرضت عنه. وقد قرأ أبيّ بن كعب، وابن أبي عبلة، وأبو عمران: «قُلوبُهم عن ذكر الله» مكان قوله: «من».
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٢٣]
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣)
قوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ يعني القرآن وقد ذكرنا سبب نزولها في أول يوسف «٢».
قوله تعالى: كِتاباً مُتَشابِهاً فيه قولان: أحدهما: أن بَعْضهُ يشْبِه بَعْضاً في الآي والحروف، فالآية تُشْبِه الآية، والكَلِمَة تُشْبِه الكَلِمة، والحَرْفُ يُشْبِه الحَرْفَ. والثاني: أن بَعْضَه يصدِّق بَعْضاً، فليس فيه اختلاف ولا تناقض.
وإنما قيل له: مَثانِيَ لأنه كُرِّرت فيه القصص والفرائض والحدود والثَّواب والعقاب.
فإن قيل: ما الحكمة في تكرار القصص، والواحدة قد كانت تكفي؟
فالجواب: أن وفود العرب كانت تَرِدُ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيُقرئهم المسلمون شيئاً من القرآن، فيكون ذلك كافياً لهم، وكان يَبْعَثُ إلى القبائل المتفرِّقة بالسُّوَر المختلفة، فلو لم تكن الأنباء والقصص مثنّاة مكرَّرة، لوقعتْ قصةُ موسى إِلى قوم، وقصةُ عيسى إِلى قوم، وقصةُ نوح إِلى قوم، فأراد الله تعالى أن يشهر هذه القصص في أطراف الأرض ويُلْقِيَها إِلى كل سَمْع. فأمّا فائدة تكرار الكلام من جنس واحد، كقوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ «٣»، وقوله: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ «٤»، وقوله تعالى:
أَوْلى لَكَ فَأَوْلى «٥» وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ «٦» فسنذكرها في سورة الرّحمن عزّ وجلّ.
قوله تعالى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أي: تأخذُهم قشعريرة، وهو تغيُّر يحدُث في جِلْد الإِنسان من الوَجَل.
(١٢٢٦) وروى العباس بن عبد المطّلب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إِذا اقشعرَّ جِلْد العَبْد من
__________
(١) البقرة: ٧٤. [.....]
(٢) يوسف: ٣.
(٣) الرحمن: ١٣.
(٤) الكافرون: ٢.
(٥) القيامة: ٣٤.
(٦) الانفطار: ١٧.