نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ «١». وَقَالَ: غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ «٢». وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا طَمِعَ فِي جَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنِطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ» انْتَهَى. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قَالَ: مَا وُصِفَ مِنْ خَلْقِهِ، وَفِي قَوْلِهِ:
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، قَالَ: مَدَحَ نَفْسَهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ بَقِيَّةَ الْفَاتِحَةِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قُرِئَ مَلِكِ وَمَالِكَ وَمَلْكِ بِسُكُونِ اللَّامِ، وَمَلَكَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيُّهُمَا أَبْلَغُ مَلِكِ أَوْ مَالِكِ؟ فَقِيلَ إِنَّ مَلِكَ أَعَمُّ وَأَبْلَغُ مِنْ مَالِكٍ، إِذْ كُلُّ مَلِكٍ مَالِكٌ، وَلَيْسَ كُلُّ مَالِكٍ مَلِكًا، وَلِأَنَّ أَمْرَ الْمَلِكِ نَافِذٌ عَلَى الْمَالِكِ فِي ملكه حتى لا يتصرف إلا بتدبير الْمَلِكِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْمُبَرِّدُ وَرَجَّحَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقِيلَ مَالِكٌ أَبْلَغُ لِأَنَّهُ يَكُونُ مَالِكًا لِلنَّاسِ وَغَيْرِهِمْ، فَالْمَالِكُ أَبْلَغُ تَصَرُّفًا وَأَعْظَمُ.
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: إِنَّ مَالِكًا أَبْلَغُ فِي مَدْحِ الْخَالِقِ مِنْ مَلِكٍ. وَمَلِكٌ أَبْلَغُ فِي مَدْحِ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ مَالِكٍ، لِأَنَّ الْمَالِكَ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَلِكٍ، وَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مَالِكًا كَانَ مَلِكًا. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ.
وَالْحَقُّ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَصْفَيْنِ نَوْعَ أَخَصِّيَّةٍ لَا يُوجَدُ فِي الآخر فالمالك يقدر على ما يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمَلِكُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ بِمَا هُوَ مَالِكٌ لَهُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْعِتْقِ وَنَحْوِهَا، وَالْمَلِكُ يَقْدِرُ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمَالِكُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْعَائِدَةِ إِلَى تَدْبِيرِ الْمَلِكِ وَحِيَاطَتِهِ وَرِعَايَةِ مَصَالِحِ الرَّعِيَّةِ فَالْمَالِكُ أَقْوَى مِنَ الْمَلِكِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَالْمَلِكُ أَقْوَى مِنَ الْمَالِكِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَلِكَ صِفَةٌ لَذَّاتِهِ، والمالك صفة لفعله. ويوم الدِّينِ: يَوْمُ الْجَزَاءِ مِنَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ كَمَا قَالَ: وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ- ثُمَّ مَا أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ- يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ «٣» وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ إِلَى الظَّرْفِ عَلَى طَرِيقِ الِاتِّسَاعِ، كقولهم: يا سارق الليلة أهل الدار ويوم الدِّينِ وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا فَقَدْ يُضَافُ اسْمُ الْفَاعِلِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ، كَقَوْلِكَ: هَذَا ضَارِبٌ زَيْدًا غَدًا. وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ مَلِكِ بِغَيْرِ أَلِفٍ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَانُوا يَقْرَءُونَ مَالِكِ بِالْأَلِفِ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَيْضًا وَكِيعٌ فِي تَفْسِيرِهِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الزُّهْرِيِّ يَرْفَعُهُ مُرْسَلًا. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ مَرْفُوعًا مُرْسَلًا. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ، فَهُوَ أَرْجَحُ مِنَ الْأَوَّلِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا يَوْمَ الدِّينِ بِيَوْمِ الْحِسَابِ. وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: يَوْمِ الدِّينِ: يَوْمَ يدين الله العباد بأعمالهم.

(١). الحجر: ٤٩- ٥٠.
(٢). غافر: ٣.
(٣). الانفطار: ١٧- ١٩.


الصفحة التالية
Icon