وَقَدْ أَخْرَجَ نَحْوَ هَذَا عَنْهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هذه الآية: من أَوَبَقَ نَفْسَهُ كَمَا لَوْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا فِي الْوِزْرِ، وَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا فِي الْأَجْرِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا فَيَلْزَمُهُ مِنَ الْقَوْدِ وَالْقِصَاصِ مَا يَلْزَمُ مَنْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْياها أَيْ مَنْ عَفَا عَمَّنْ وَجَبَ قَتْلُهُ، حَكَاهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَحُكِيَ عن الحسن أنه العفو بعد القدرة: يَعْنِي أَحْيَاهَا. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ إِحْيَاءَهَا: إِنْجَاؤُهَا مِنْ غَرَقٍ أَوْ حَرْقٍ أَوْ هَدْمٍ أَوْ هَلَكَةٍ، حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا فَالْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ خُصَمَاؤُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ وَتَرَ الْجَمِيعَ وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً أَيْ وجب على الكلّ شكره وقيل المعنى: أنه مَنِ اسْتَحَلَّ وَاحِدًا فَقَدِ اسْتَحَلَّ الْجَمِيعَ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ الشَّرْعَ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْإِحْيَاءُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ التَّرْكِ وَالْإِنْقَاذِ مِنْ هَلَكَةٍ فَهُوَ مَجَازٌ، إِذِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ مُخْتَصٌّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَالْمُرَادُ بِهَذَا التَّشْبِيهِ فِي جَانِبِ الْقَتْلِ تَهْوِيلُ أَمْرِ الْقَتْلِ وَتَعْظِيمِ أَمْرِهِ فِي النُّفُوسِ حَتَّى يَنْزَجِرَ عَنْهُ أَهْلُ الْجُرْأَةِ وَالْجَسَارَةِ، وَفِي جَانِبِ الْإِحْيَاءِ التَّرْغِيبُ إِلَى الْعَفْوِ عَنِ الْجُنَاةِ وَاسْتِنْقَاذِ الْمُتَوَرِّطِينَ فِي الْهَلَكَاتِ. قَوْلُهُ: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مُؤَكِّدَةٌ بِاللَّامِ الْمُوطِئَةِ لِلْقَسَمِ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْإِخْبَارِ بِأَنَّ الرُّسُلَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ جَاءُوا الْعِبَادَ بِمَا شَرَّعَهُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا أَمْرُ الْقَتْلِ، وَثُمَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ وَالِاسْتِبْعَادِ الْعَقْلِيِّ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا ذَكَرَ مِمَّا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ الْكَتْبِ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ فِي قوله: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قد اختلف النَّاسِ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْعُرَنِيِّينَ. وَقَالَ مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي: إنها نَزَلَتْ فِيمَنْ خَرَجَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ وَيَسْعَى فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَوْلُ مَالِكٍ صَحِيحٌ. قَالَ أَبُو ثَوْرٍ مُحْتَجًّا لِهَذَا الْقَوْلِ:
إِنَّ قَوْلَهَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَيْرِ أَهْلِ الشِّرْكِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ إِذَا وَقَعُوا فِي أَيْدِينَا فَأَسْلَمُوا أَنَّ دِمَاءَهُمْ تَحْرُمُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ، انْتَهَى. وَهَكَذَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ «١»، وقوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ: أَعْنِي آيَةَ الْمُحَارِبَةِ نَسَخَتْ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي الْعُرَنِيِّينَ، وَوَقَفَ الْأَمْرُ عَلَى هَذِهِ الْحُدُودِ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ: يعني فعله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِالْعُرَنِيِّينَ وَبِهَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ فِعْلَهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِالْعُرَنِيِّينَ مَنْسُوخٌ بِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ عَنِ الْمُثْلَةِ، وَالْقَائِلُ بِهَذَا مُطَالَبٌ بِبَيَانِ تَأَخُّرِ النَّاسِخِ، وَسَيَأْتِي سِيَاقُ الرِّوَايَاتِ الْوَارِدَةِ فِي سَبَبِ النُّزُولِ. وَالْحَقُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَعُمُّ الْمُشْرِكَ وَغَيْرَهُ لِمَنِ ارْتَكَبَ مَا تَضَمَّنَتْهُ، وَلَا اعْتِبَارَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ، بَلِ الِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ مُتَرَتِّبٌ فِي الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي الْمُرْتَدِّينَ أَوِ الْيَهُودِ، انْتَهَى. وَمَعْنَى قَوْلِهِ مُتَرَتِّبٌ: أَيْ ثَابِتٌ قِيلَ: الْمُرَادُ بمحاربة الله المذكورة في

(١). الأنفال: ٣٨.


الصفحة التالية
Icon