لَكُمْ قَدَمٌ لَا يُنْكِرُ النَّاسُ أَنَّهَا مَعَ الْحَسَبِ الْعَالِي طَمَتْ عَلَى الْبَحْرِ
وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْقَدَمُ: الْمُتَقَدِّمُ فِي الشَّرَفِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْكِسَائِيُّ: كُلُّ سَابِقٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ قَدَمٌ يُقَالُ: لِفُلَانٍ قَدَمٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَهُ عِنْدِي قَدَمُ صِدْقٍ، وَقَدَمُ خَيْرٍ، وَقَدَمُ شَرٍّ وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَجَّاجِ:
زلّ بنو العوّام عند آلِ الْحَكَمْ وَتَرَكُوا الْمُلْكَ لِمُلْكٍ ذِي قَدَمْ
وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الْقَدَمُ: كُلُّ مَا قَدَّمْتَ مِنْ خَيْرٍ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْقَدَمُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْعَمَلِ الَّذِي لَا يَقَعُ فِيهِ تَأْخِيرٌ وَلَا إِبْطَاءٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ: سَلَفُ صِدْقٍ، وَقَالَ الرَّبِيعُ: ثَوَابُ صِدْقٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَقَالَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ: قَدَمُهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فِي الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَعْمَالًا قدّموها، واختاره ابن جرير، ومنه قول ابن الوضّاح:
صلّ لذي العرش واتّخذ قدما ينجك يَوْمَ الْخِصَامِ وَالزَّلَلِ
وَقِيلَ: غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ، مِمَّا لَا حَاجَةَ إِلَى التَّطْوِيلِ بِإِيرَادِهِ. قَوْلُهُ: قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ مُبِينٌ.
قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: لَساحِرٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا رَسُولَ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: لَسِحْرٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا الْقُرْآنَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى السِّحْرِ فِي الْبَقَرَةِ، وَجُمْلَةُ قالَ الْكافِرُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا صَنَعُوا بَعْدَ التَّعَجُّبِ وَقَالَ الْقَفَّالُ: فِيهِ إِضْمَارٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَلَمَّا أَنْذَرَهُمْ قَالَ الْكَافِرُونَ ذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَاءَ بِكَلَامٍ يُبْطِلُ بِهِ الْعَجَبَ الَّذِي حَصَلَ لِلْكُفَّارِ مِنَ الْإِيحَاءِ إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ «١» أَيْ: مَنْ كَانَ لَهُ هَذَا الِاقْتِدَارُ الْعَظِيمُ الَّذِي تَضِيقُ الْعُقُولُ عَنْ تَصَوُّرِهِ كَيْفَ يَكُونُ إِرْسَالُهُ لِرَسُولٍ إِلَى النَّاسِ مِنْ جِنْسِهِمْ مَحَلًّا لِلتَّعَجُّبِ مَعَ كَوْنِ الْكُفَّارِ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ، فَكَيْفَ لَا يَعْتَرِفُونَ بِصِحَّةِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ بِهَذَا الرَّسُولِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْأَعْرَافِ فِي قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ فَلَا نُعِيدُهُ هُنَا، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى مَزِيدِ قُدْرَتِهِ وَعَظِيمِ شَأْنِهِ فَقَالَ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ وَتَرَكَ الْعَاطِفَ، لِأَنَّ جُمْلَةَ يُدَبِّرُ كَالتَّفْسِيرِ وَالتَّفْصِيلِ لِمَا قَبْلَهَا وَقِيلَ: هِيَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ اسْتَوَى وَقِيلَ: مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَأَصْلُ التَّدْبِيرِ النَّظَرُ فِي أَدْبَارِ الْأُمُورِ وَعَوَاقِبِهَا لِتَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَقْبُولِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَقْضِيهِ وَيُقَدِّرُهُ وَحْدَهُ، وَقِيلَ: يَبْعَثُ الْأَمْرَ، وَقِيلَ: يُنَزِّلُ الْأَمْرَ، وَقِيلَ: يَأْمُرُ بِهِ وَيُمْضِيهِ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الدُّبُرِ، وَالْأَمْرُ: الشَّأْنُ، وَهُوَ أَحْوَالُ ملكوت السموات وَالْأَرْضِ وَالْعَرْشِ وَسَائِرِ الْخَلْقِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَصْنَامَ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْفَعَ إِلَيْهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا بَعْدَ إِذْنِهِ، لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَوْضِعِ الْحِكْمَةِ وَالصَّوَابِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الشَّفَاعَةِ في البقرة، وفي هذه بَيَانٌ لِاسْتِبْدَادِهِ بِالْأُمُورِ فِي كُلِّ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمُ إِلَى فَاعِلِ هَذِهِ الأشياء من الخلق والتدبير، أي:
(١). الأعراف: ٥٤.


الصفحة التالية
Icon