| فَلَسْتُ لِإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لَمَلْأَكٍ | تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السماء يصوب |
وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِثْلَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي حُسْنِ تَقْوِيمِهِ وَكَمَالِ صُورَتِهِ، فَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي هَذَا الْمَقَامِ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ تَعَصُّبَاتِهِ لِمَا رَسَخَ فِي عَقْلِهِ مِنْ أَقْوَالِ الْمُعْتَزِلَةِ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ- أَعْنِي مَسْأَلَةَ الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ- لَيْسَتْ مِنْ مَسَائِلِ الدِّينِ فِي وِرْدٍ وَلَا صَدْرٍ، فَمَا أَغْنَى عِبَادَ اللَّهِ عَنْهَا وَأَحْوَجَهُمْ إِلَى غَيْرِهَا مِنْ مَسَائِلِ التَّكْلِيفِ قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى يُوسُفَ، وَالْخِطَابُ لِلنِّسْوَةِ، أَيْ: عَيَّرْتُنَّنِي فِيهِ. قَالَتْ لَهُنَّ هَذَا لَمَّا رَأَتِ افْتِتَانَهُنَّ بِيُوسُفَ إِظْهَارًا لِعُذْرِ نَفْسِهَا وَمَعْنَى فِيهِ: أَيْ فِي حُبِّهِ وَقِيلَ بالإشارة إِلَى الْحَبِّ، وَالضَّمِيرُ لَهُ أَيْضًا وَالْمَعْنَى: فَذَلِكَ الْحُبُّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ هُوَ ذَلِكَ الْحُبُّ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَرَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَأَصْلُ اللَّوْمِ: الْوَصْفُ بِالْقَبِيحِ. ثُمَّ لَمَّا أَظْهَرَتْ عُذْرَ نَفْسِهَا عِنْدَ النِّسْوَةِ بِمَا شَاهَدَتْهُ مِمَّا وَقَعْنَ فِيهِ عِنْدَ ظُهُورِهِ لَهُنَّ ضَاقَ صَدْرُهَا عَنْ كَتْمِ مَا تَجِدُهُ فِي قَلْبِهَا مِنْ حُبِّهِ، فَأَقَرَّتْ بِذَلِكَ وَصَرَّحَتْ بِمَا وَقَعَ مِنْهَا مِنَ الْمُرَاوَدَةِ لَهُ، فَقَالَتْ: وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ أَيِ اسْتَعَفَّ وَامْتَنَعَ مِمَّا أُرِيدُهُ طَالِبًا لِعِصْمَةِ نَفْسِهِ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ تَوَعَّدَتْهُ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا تُرِيدُهُ كَاشِفَةً لِجِلْبَابِ الْحَيَاءِ هَاتِكَةً لِسِتْرِ الْعَفَافِ، فَقَالَتْ:
وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ أَيْ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا قَدْ أَمَرَتْهُ بِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عِنْدَ ما غَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ لَيُسْجَنَنَّ أَيْ: يُعْتَقَلُ فِي السِّجْنِ وَلَيَكُونَنَّ مِنَ الصَّاغِرِينَ الْأَذِلَّاءِ لِمَا يَنَالُهُ مِنَ الْإِهَانَةِ، وَيُسْلَبُ عَنْهُ مِنَ النِّعْمَةِ وَالْعِزَّةِ فِي زَعْمِهَا، قُرِئَ «لَيَكُونَنَّ» بِالتَّثْقِيلِ وَالتَّخْفِيفِ، قِيلَ:
وَالتَّخْفِيفُ أَوْلَى لِأَنَّ النُّونَ كُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ أَلِفًا عَلَى حُكْمِ الْوَقْفِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْخَفِيفَةِ، وَأَمَّا لَيُسْجَنَنَّ فَبِالتَّثْقِيلِ لَا غَيْرَ فَلَمَّا سَمِعَ يُوسُفُ مَقَالَهَا هَذَا، وَعَرَفَ أَنَّهَا عَزْمَةٌ مِنْهَا مَعَ مَا قَدْ عَلِمَهُ مِنْ نَفَاذِ قَوْلِهَا عِنْدَ زَوْجِهَا الْعَزِيزِ قَالَ مُنَاجِيًا لِرَبِّهِ سُبْحَانَهُ رَبِّ السِّجْنُ أَيْ: يَا رَبِّ السَّجْنُ الَّذِي أَوْعَدَتْنِي هَذِهِ بِهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ مِنْ إتيانها وَالْوُقُوعِ فِي الْمَعْصِيَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَذْهَبُ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخَرِةِ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ دُخُولُ السِّجْنِ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ. وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَرَأَ «السَّجْنُ» بِفَتْحِ السِّينِ، وَقَرَأَ كَذَلِكَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وعبد الرحمن الأعرج وَيَعْقُوبُ، وَهُوَ مَصْدَرُ سَجَنَهُ سَجْنًا، وَإِسْنَادُ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِنَّ جَمِيعًا لِأَنَّ النِّسْوَةَ رَغَّبْنَهُ فِي مُطَاوَعَتِهَا وَخَوَّفْنَهُ مِنْ مُخَالَفَتِهَا، ثُمَّ جَرَى عَلَى هَذَا فِي نِسْبَةِ الْكَيْدِ إِلَيْهِنَّ جَمِيعًا، فَقَالَ: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَمَّا الْكَيْدُ مِنِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ فَمَا قَدْ قَصَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَأَمَّا كَيْدُ سَائِرِ النِّسْوَةِ فَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّرْغِيبِ لَهُ فِي الْمُطَاوَعَةِ وَالتَّخْوِيفِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ وَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ تَخْلُو بِهِ وَحْدَهَا، وَتَقُولُ لَهُ: يَا يُوسُفُ اقْضِ لِي حَاجَتِي فَأَنَا خَيْرٌ لَكَ
(١). التين: ٤.