وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ «١» فَإِنَّ الْبَيَانَ بِكَوْنِهِنَّ مِنَ النِّسَاءِ يُشْعِرُ بِأَنَّ لَفْظَ الْمُحْصَنَاتِ يَشْمَلُ غَيْرَ النِّسَاءِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلْبَيَانِ كَثِيرُ مَعْنًى، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ الْفُرُوجَ كَمَا قَالَ: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها «٢» فَتَتَنَاوَلُ الْآيَةُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ.
وَقِيلَ: إِنَّ لَفْظَ المحصنات وإن كان للنساء لكنها هَاهُنَا يَشْمَلُ النِّسَاءَ وَالرِّجَالَ تَغْلِيبًا، وَفِيهِ أَنَّ تَغْلِيبَ النِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ هُنَا: الْعَفَائِفُ، وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ذِكْرُ الْإِحْصَانِ وَمَا يَحْتَمِلُهُ مِنَ الْمَعَانِي. وَلِلْعُلَمَاءِ فِي الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْمَقْذُوفِ وَالْقَاذِفِ أَبْحَاثٌ مُطَوَّلَةٌ مُسْتَوْفَاةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، مِنْهَا مَا هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ دَلِيلٍ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُجَرَّدُ رَأْيٍ بَحْتٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «وَالْمُحْصَنَاتُ» بِفَتْحِ الصَّادِ، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ بِكَسْرِهَا. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى مَنْ قَذَفَ كَافِرًا أَوْ كَافِرَةً.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ أَيْضًا أَنَّ الْعَبْدُ يُجْلَدُ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَبِيصَةُ: يُجْلَدُ ثَمَانِينَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لَا يُجْلَدُ لِلْعَبْدِ إِذَا افْتَرَى عَلَيْهِ لِتَبَايُنِ مَرْتَبَتِهِمَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ أَنَّ مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ بِالزِّنَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ شَرْطًا لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ قَذَفَ الْمُحْصَنَاتِ فَقَالَ: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ أَيْ: يَشْهَدُونَ عَلَيْهِنَّ بِوُقُوعِ الزِّنَا مِنْهُنَّ، وَلَفْظُ ثُمَّ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَهَادَةُ الشُّهُودِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَذْفِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مَالِكٌ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ مُجْتَمَعِينَ وَمُفْتَرِقِينَ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَسَنُ وَمَالِكٌ. وَإِذَا لَمْ تَكْمُلِ الشُّهُودُ أربعة كانوا قذفة يحدّون حدّ الْقَذْفِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ: إِنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الشُّهُودِ وَلَا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. وَيَرُدُّ ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ جِلْدِهِ لِلثَّلَاثَةِ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ بِالزِّنَا، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ» بِإِضَافَةِ أَرْبَعَةٍ إِلَى شُهَدَاءَ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ وَأَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرٍو بِتَنْوِينِ أَرْبَعَةٍ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي إِعْرَابِ شُهَدَاءَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، فَقِيلَ: هُوَ تَمْيِيزٌ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُمَيَّزَ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ يُضَافُ إِلَيْهِ الْعَدَدُ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْحَالَ لَا يَجِيءُ مِنَ النَّكِرَةِ الَّتِي لَمْ تُخَصَّصْ. وَقِيلَ: إِنَّ شُهَدَاءَ فِي مَحَلِّ جَرٍّ نَعْتًا لِأَرْبَعَةٍ، وَلَمَّا كَانَ فِيهِ أَلِفُ التَّأْنِيثِ لَمْ يَنْصَرِفْ.
وَقَالَ النَّحَّاسُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شُهَدَاءُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، أي: لَمْ يُحْضِرُوا أَرْبَعَةَ شُهَدَاءَ، وَقَدْ قَوَّى ابْنُ جِنِّيٍّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، وَيَدْفَعُ ذَلِكَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ إِنَّ تَنْوِينَ الْعَدَدِ وَتَرْكَ إِضَافَتِهِ إِنَّمَا يَجُوزُ فِي الشِّعْرِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا يَجِبُ عَلَى الْقَاذِفِ فَقَالَ: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً الْجَلْدُ: الضَّرْبُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْمُجَالَدَةُ:
الْمُضَارَبَةُ فِي الْجُلُودِ أو بالجلود، ثم استعير للضرب بالعصي وَالسَّيْفِ وَغَيْرِهِمَا، وَمِنْهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ:
أُجَالِدُهُمْ يَوْمَ الْحَدِيقَةِ حَاسِرًا | كَأَنَّ يَدِي بِالسَّيْفِ مِخْرَاقُ لَاعِبِ |
(٢). الأنبياء: ٩١.