ابْنِ مَسْعُودٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ جريج أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ غَيْرِ:
بِالْجَرِّ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنِ عَامِرٍ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَقِيلَ: عَلَى الْقَطْعِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّابِعِينَ: هُمُ الَّذِينَ يَتْبَعُونَ الْقَوْمَ فَيُصِيبُونَ مِنْ طَعَامِهِمْ لَا هِمَّةَ لَهُمْ إِلَّا ذلك، ولا حاجة لهم في النساء قال مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ، وَمِنَ الرِّجَالِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَأَصْلُ الْإِرْبَةِ وَالْأَرَبِ وَالْمَأْرَبَةِ الْحَاجَةُ وَالْجَمْعُ مَآرِبُ، أَيْ: حَوَائِجُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ سبحانه: وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى «١» ومه قَوْلُ طَرَفَةَ:

إِذَا الْمَرْءُ قَالَ الْجَهْلَ وَالْحَوْبَ «٢» وَالْخَنَا تَقَدَّمَ يَوْمًا ثُمَّ ضَاعَتْ مَآرِبُهُ
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِغَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ الْحَمْقَى الَّذِينَ لَا حَاجَةَ لَهُمْ فِي النِّسَاءِ، وَقِيلَ: الْبَلِهُ، وَقِيلَ:
الْعِنِّينُ، وَقِيلَ: الْخَصِيُّ، وَقِيلَ: الْمُخَنَّثُ، وَقِيلَ: الشَّيْخُ الْكَبِيرُ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ، بَلِ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ ظَاهِرُهَا وَهُمْ مِنْ يَتْبَعُ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَلَا حَاجَةَ لَهُ فِي النِّسَاءِ، وَلَا يَحْصُلُ مِنْهُ ذَلِكَ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَيَدْخُلُ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ هُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَيَخْرُجُ مَنْ عَدَاهُ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ الطِّفْلُ: يُطْلَقُ عَلَى الْمُفْرَدِ وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ، أَوِ الْمُرَادِ بِهِ هُنَا الْجِنْسُ الْمَوْضُوعُ مَوْضِعَ الْجَمْعِ بِدَلَالَةِ وَصْفِهِ بِوَصْفِ الْجَمْعِ، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ «أَوِ الْأَطْفَالِ» عَلَى الْجَمْعِ، يُقَالُ لِلْإِنْسَانِ طِفْلٌ: مَا لَمْ يُرَاهِقِ الْحُلُمَ، وَمَعْنَى لَمْ يَظْهَرُوا: لَمْ يَطَّلِعُوا، من الظهور بمعنى الاطلاع، قال ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ الشهوة، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ، يُقَالُ ظَهَرْتُ عَلَى كَذَا: إِذَا غَلَبَتُهُ وَقَهَرَتُهُ. وَالْمَعْنَى: لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَيَكْشِفُوا عَنْهَا لِلْجِمَاعِ، أَوْ لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ الشَّهْوَةِ لِلْجِمَاعِ. قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ «عَوْرَاتِ» بِسُكُونِ الْوَاوِ تَخْفِيفًا، وَهِيَ لُغَةُ جُمْهُورِ الْعَرَبِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ بِذَلِكَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْأَعْمَشُ. وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلِ بْنِ مُدْرِكَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ الَّذِي أَنْشَدَهُ الفراء:
أخو بيضات رائح متأوب رفيق بمسح الْمَنْكِبَيْنِ سَبُوحُ
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ سَتْرِ مَا عَدَا الْوَجْهِ، وَالْكَفَّيْنِ مِنَ الْأَطْفَالِ، فَقِيلَ: لَا يَلْزَمُ لِأَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ وَهُوَ الصحيح وقيل: يلزم لأنه قد يشتهي الْمَرْأَةُ. وَهَكَذَا اخْتُلِفَ فِي عَوْرَةِ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي قَدْ سَقَطَتْ شَهْوَتُهُ، وَالْأَوْلَى: بَقَاءُ الْحُرْمَةِ كما كانت، فلا يحلّ النظر إلى عورته وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَكْشِفَهَا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ العلماء في حدّ العورة. قال القرطبي: أجمع المسلمون على أن السوأتين عَوْرَةٌ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ كُلَّهَا عَوْرَةٌ إِلَّا وَجْهَهَا وَيَدَيْهَا عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الْأَكْثَرُ: إِنَّ عَوْرَةَ الرَّجُلِ مِنْ سُرَّتِهِ إِلَى رُكْبَتِهِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ أَيْ: لَا تَضْرِبُ الْمَرْأَةُ بِرِجْلِهَا إِذَا مَشَتْ لِيُسْمَعَ صَوْتُ خَلْخَالِهَا مَنْ يَسْمَعُهُ مِنَ الرِّجَالِ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا ذَاتُ خَلْخَالٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَسَمَاعُ هَذِهِ الزِّينَةِ أَشَدُّ تَحْرِيكًا لِلشَّهْوَةِ مِنْ إِبْدَائِهَا. ثُمَّ أَرْشَدَ عِبَادَهُ إلى التوبة عن المعاصي فقال سبحانه:
(١). طه: ١٨.
(٢). الحوب: بضم الحاء وفتحها الإثم. والخنا: الفحش.


الصفحة التالية
Icon