ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ أَوْلِيَاءُ الْيَهُودِ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ أَيْ: نَاصِرُهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالْمُتَّقِينَ الَّذِينَ اتَّقَوُا الشِّرْكَ وَالْمَعَاصِيَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: هَذَا إِلَى الْقُرْآنِ أَوْ إِلَى اتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ بَصائِرُ لِلنَّاسِ أَيْ: بَرَاهِينُ وَدَلَائِلُ لَهُمْ فِيمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ، جَعَلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْبَصَائِرِ فِي الْقُلُوبِ، وَقُرِئَ هَذِهِ بَصَائِرُ أَيْ: هَذِهِ الْآيَاتُ لِأَنَّ الْقُرْآنَ بِمَعْنَاهَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
........ سَائِلْ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ «١» لِأَنَّ الصَّوْتَ بِمَعْنَى الصَّيْحَةِ. وَهُدىً أَيْ: رُشْدٌ، وَطَرِيقٌ يُؤَدِّي إِلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ عَمِلَ بِهِ وَرَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أَيْ: مِنْ شَأْنِهِمُ الْإِيقَانُ وَعَدَمُ الشَّكِّ وَالتَّزَلْزُلِ بِالشُّبَهِ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ
«أَمْ» هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ الْمُقَدَّرَةُ بِبَلْ وَالْهَمْزَةِ وَمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى بَلْ لِلِانْتِقَالِ مِنَ الْبَيَانِ الْأَوَّلِ إِلَى الثَّانِي، وَالْهَمْزَةُ لِإِنْكَارِ الْحُسْبَانِ، وَالِاجْتِرَاحُ: الِاكْتِسَابِ، وَمِنْهُ الْجَوَارِحُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَائِدَةِ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ تَبَايُنِ حَالَيِ الْمُسِيئِينَ وَالْمُحْسِنِينَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
أَيْ: نُسَوِّي بَيْنَهُمْ، مَعَ اجْتِرَاحِهُمُ السَّيِّئَاتِ، وَبَيْنَ أَهْلِ الْحَسَنَاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
فِي دَارِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، كَلَّا لَا يَسْتَوُونَ، فَإِنَّ حَالَ أَهْلِ السَّعَادَةِ فِيهِمَا غَيْرُ حَالِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ. وَقِيلَ:
الْمُرَادُ إِنْكَارُ أو يَسْتَوُوا فِي الْمَمَاتِ كَمَا اسْتَوَوْا فِي الْحَيَاةِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «سَوَاءٌ» بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَالْمُبْتَدَأُ:
مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ، وَالْمَعْنَى: إِنْكَارُ حُسْبَانِهِمْ أَنَّ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتَهُمْ سَوَاءٌ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ «سَوَاءً» بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: كَالَّذِينَ آمَنُوا
أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لحسب، وَاخْتَارَ قِرَاءَةَ النَّصْبِ أَبُو عُبَيْدٍ، وَقَالَ مَعْنَاهُ: نَجْعَلُهُمْ سَوَاءً، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ «مَمَاتَهُمْ» بِالنَّصْبِ عَلَى مَعْنَى: سَوَاءً فِي مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتِهِمْ، فَلَمَّا سَقَطَ الْخَافِضُ انْتَصَبَ، أَوْ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَفْعُولِ نَجْعَلُهُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ
أَيْ: سَاءَ حُكْمُهُمْ هَذَا الَّذِي حَكَمُوا بِهِ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أَيْ: بِالْحَقِّ الْمُقْتَضِي لِلْعَدْلِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَمَحَلُّ بِالْحَقِّ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ، أَوْ مِنَ الْمَفْعُولِ، أَوِ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْحَقِّ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سَبَبٌ، فَعَطَفَ السَّبَبَ عَلَى السَّبَبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ليدلّ بهما على قدرته: «ولتجزى» يجوز أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلصَّيْرُورَةِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ أَيِ: النُّفُوسُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهَا بِكُلِّ نَفْسٍ لَا يُظْلَمُونَ بِنَقْصِ ثَوَابٍ أَوْ زِيَادَةِ عِقَابٍ. ثُمَّ عَجِبَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَالِ الْكُفَّارِ فَقَالَ: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: ذَلِكَ الْكَافِرُ اتَّخَذَ دِينَهُ مَا يَهْوَاهُ فَلَا يَهْوَى شَيْئًا إِلَّا رَكِبَهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَعْبُدُ مَا يَهْوَاهُ أَوْ يَسْتَحْسِنُهُ، فَإِذَا اسْتَحْسَنَ شَيْئًا وهويه اتخذه إلها. قال

(١). وصدره: يا أيّها الراكب المزجي مطيّته.
والبيت لرويشد بن كثير الطائي. (شرح المعلقات السبع للزوزني ص ٢٥٠) طبع دار ابن كثير.


الصفحة التالية
Icon