وَمُخَلَّدَاتٌ بِاللُّجَيْنِ كَأَنَّمَا أَعْجَازُهُنَّ أَقَاوِزُ «١» الْكُثْبَانِ
وَقِيلَ: مخلدون: منطقون، قِيلَ: وَهُمْ وِلْدَانُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ صِغَارًا وَلَا حَسَنَةَ لَهُمْ وَلَا سَيِّئَةَ، وَقِيلَ: هُمْ أَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونُوا مَخْلُوقِينَ فِي الْجَنَّةِ لِلْقِيَامِ بِهَذِهِ الْخِدْمَةِ، وَالْأَكْوَابُ: هِيَ الْأَقْدَاحُ الْمُسْتَدِيرَةُ الْأَفْوَاهِ الَّتِي لَا آذَانَ لَهَا وَلَا عُرًى، وَقَدْ مَضَى بَيَانُ مَعْنَاهَا فِي سورة الزخرف، والأباريق: هي ذات العرا وَالْخَرَاطِيمِ، وَاحِدُهَا إِبْرِيقٌ، وَهُوَ الَّذِي يَبْرُقُ لَوْنُهُ مِنْ صَفَائِهِ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ أَيْ: مِنْ خمر جارية أو من مَاءٍ جَارٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا الْخَمْرُ الْجَارِيَةُ مِنَ الْعُيُونِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى الْكَأْسِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْها أَيْ: لَا تَتَصَدَّعُ رُؤُوسُهُمْ مِنْ شُرْبِهَا كَمَا تَتَصَدَّعُ مِنْ شُرْبِ خَمْرِ الدُّنْيَا. وَالصُّدَاعُ:
هُوَ الدَّاءُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ فِي رَأْسِهِ، وَقِيلَ: لَا يُصَدَّعُونَ لَا يَتَفَرَّقُونَ كَمَا يَتَفَرَّقُ الشُّرَّابُ، وَيُقَوِّي هَذَا الْمَعْنَى قِرَاءَةُ مُجَاهِدٍ يَصَّدَّعُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ، وَالْأَصْلُ يَتَصَدَّعُونَ، أَيْ: يَتَفَرَّقُونَ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَجُمْلَةُ وَلا يُنْزِفُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي هذا الحرف في سُورَةِ الصَّافَّاتِ، وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، أَيْ: لَا يَسْكَرُونَ فَتَذْهَبُ عُقُولُهُمْ، مِنْ أَنْزَفَ الشَّارِبُ إِذَا نفذ عَقْلُهُ أَوْ شَرَابُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «٢» :
لَعَمْرِي لَئِنْ أَنَزَفْتُمُ أَوْ صَحَوْتُمْ لَبِئْسَ النَّدَامَى كُنْتُمُ آلَ أَبْجَرَا
وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ أَيْ: يَخْتَارُونَهُ، يُقَالُ: تَخَيَّرْتُ الشَّيْءَ: إِذَا أَخَذْتَ خَيْرَهُ. قَرَأَ الجمهور وَفاكِهَةٍ بالجر وَكذا لَحْمِ عَطْفًا عَلَى أَكْوَابٍ، أَيْ: يَطُوفُونَ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمُتَفَكَّهِ بِهِ. وَقَرَأَ زيد بن علي وأبو عبد الرّحمن برفعهما عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مُقَدَّرٌ، أَيْ: وَلَهُمْ فَاكِهَةٌ وَلَحْمٌ، وَمَعْنَى مِمَّا يَشْتَهُونَ مِمَّا يَتَمَنَّوْنَهُ وَتَشْتَهِيهِ أَنْفُسُهُمْ وَحُورٌ عِينٌ- كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ قَرَأَ الجمهور: وَحُورٌ عِينٌ بِرَفْعِهِمَا عَطْفًا عَلَى وِلْدَانٌ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ: نِسَاؤُهُمْ حُورٌ عِينٌ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ خَبَرٍ، أَيْ: وَلَهُمْ حُورٌ عِينٌ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِجَرِّهِمَا عَطْفًا عَلَى أَكْوَابٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى جَنَّاتٍ، أَيْ: هُمْ فِي جَنَّاتٍ وَفِي حُورٍ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَفِي مُعَاشَرَةِ حُورٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: فِي تَوْجِيهِ الْعَطْفِ عَلَى أَكْوَابٍ إِنَّهُ يَجُوزُ الْجَرُّ عَلَى الْإِتْبَاعِ فِي اللَّفْظِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْمَعْنَى لِأَنَّ الْحُورَ لَا يُطَافُ بِهِنَّ، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِذَا مَا الْغَانِيَاتُ بَرَزْنَ يَوْمًا وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَا
وَالْعَيْنُ لَا تُزَجَّجُ وَإِنَّمَا تُكَحَّلُ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا
(١). «الأقاوز» : جمع قوز: وهو كثيب من الرمل صغير شبه به أرداف النساء.
(٢). هو الحطيئة.


الصفحة التالية
Icon