مِنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى الْمُوَافَقَةِ، لِأَنَّ الجنس أميل إلى جنسه وأقرب إليه يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ يَعْنِي الْقُرْآنَ مَعَ كَوْنِهِ أُمِّيًّا لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ وَلَا تَعَلَّمَ ذَلِكَ مِنْ أَحَدٍ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِ «رَسُولًا»، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَيُزَكِّيهِمْ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَمُقَاتِلٌ: أَيْ يُطَهِّرُهُمْ مِنْ دَنَسِ الْكُفْرِ وَالذُّنُوبِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَأْخُذُ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، وَقِيلَ:
يَجْعَلُهُمْ أَزْكِيَاءَ الْقُلُوبِ بِالْإِيمَانِ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ هَذِهِ صِفَةٌ ثَالِثَةٌ لِ «رَسُولًا»، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ:
الْقُرْآنُ، وَبِالْحِكْمَةِ: السُّنَّةُ، كَذَا قَالَ الْحَسَنُ. وَقِيلَ: الْكِتَابُ: الْخَطُّ بِالْقَلَمِ، وَالْحِكْمَةُ: الْفِقْهُ فِي الدِّينِ، كَذَا قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ «١» وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أَيْ: وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ بَعْثَتِهِ فِيهِمْ فِي شِرْكٍ وَذَهَابٍ عَنِ الْحَقِّ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأُمِّيِّينَ، أَيْ: بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ، وَبَعَثَ فِي آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ذَلِكَ الْوَقْتَ، وَسَيَلْحَقُونَ بِهِمْ مِنْ بَعْدُ، أَوْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ فِي «يُعَلِّمُهُمْ»، أَيْ: وَيُعَلِّمُ آخَرِينَ، أَوْ عَلَى مَفْعُولِ «يُزَكِّيهِمْ» أَيْ: يُزَكِّيهِمْ وَيُزَكِّي آخَرِينَ مِنْهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالْآخَرِينَ مَنْ جَاءَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمْ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ:
هُمُ التَّابِعُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَالسُّدِّيُّ. وَجُمْلَةُ: لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ صفة لآخرين، والضمير في «منهم» و «بهم» رَاجِعٌ إِلَى الْأُمِّيِّينَ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآخَرِينَ هُمْ مَنْ يَأْتِي بَعْدَ الصَّحَابَةِ مِنَ الْعَرَبِ خَاصَّةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا إِلَى جميع الثقلين، فتخصيص العرب ها هنا لِقَصْدِ الِامْتِنَانِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي عُمُومَ الرِّسَالَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْآخَرِينَ الْعَجَمُ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنَ الْعَرَبِ، فَقَدْ صَارُوا بِالْإِسْلَامِ مِنْهُمْ وَالْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهُمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَيْ: بَلِيغُ الْعِزَّةِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي الْإِسْلَامَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي الْوَحْيَ وَالنُّبُوَّةَ. وَقِيلَ: إِلْحَاقُ الْعَجَمِ بِالْعَرَبِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ أَيْ: يُعْطِيهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا يُسَاوِيهِ فَضْلٌ وَلَا يُدَانِيهِ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها ضَرَبَ سُبْحَانَهُ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ تَرَكُوا الْعَمَلَ بِالتَّوْرَاةِ مَثَلًا فَقَالَ: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ أَيْ: كُلِّفُوا الْقِيَامَ بِهَا والعمل بها فِيهَا ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها أَيْ:
لَمْ يَعْمَلُوا بِمُوجِبِهَا، وَلَا أَطَاعُوا مَا أُمِرُوا بِهِ فِيهَا كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً هِيَ جَمْعُ سِفْرٍ، وَهُوَ الْكِتَابُ الْكَبِيرُ، لِأَنَّهُ يُسْفِرُ عَنِ الْمَعْنَى إِذَا قُرِئَ. قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: الْحِمَارُ لا يدري أسفر على ظهره أم زبيل «٢» فَهَكَذَا الْيَهُودُ. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: هُوَ يَعْنِي حُمِّلُوا مِنَ الْحَمَالَةِ بِمَعْنَى الْكَفَالَةِ، أَيْ: ضَمِنُوا أَحْكَامَ التَّوْرَاةِ، وَقَوْلُهُ: يَحْمِلُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ صِفَةٍ لِلْحِمَارِ إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ به حِمَارًا مُعَيَّنًا، فَهُوَ فِي حُكْمِ النَّكِرَةِ، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يسبّني... فمضيت ثمّ قلت: لا يعنيني
(٢). «الزبيل» : الزّبل والقفّة.