وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا تَظْهَرُ عِنْدَ ذَلِكَ. قَالَ قَتَادَةُ: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ فِي سُؤَالِ الْمَالِ خروج الأضغان هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي الْجِهَادِ وَفِي طَرِيقِ الْخَيْرِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ بِمَا يُطْلَبُ مِنْهُ وَيُدْعَى إِلَيْهِ مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِذَا كَانَ مِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ بِالْيَسِيرِ مِنَ الْمَالِ، فَكَيْفَ لَا تَبْخَلُونَ بِالْكَثِيرِ وَهُوَ جَمِيعُ الْأَمْوَالِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ ضَرَرَ الْبُخْلِ عَائِدٌ عَلَى النَّفْسِ، فَقَالَ:
وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ أَيْ: يَمْنَعُهَا الْأَجْرَ وَالثَّوَابَ بِبُخْلِهِ، وبخل يتعدى بعلى تارة وبعن أُخْرَى. وَقِيلَ: إِنَّ أَصْلَهُ أَنْ يَتَعَدَّى بِعَلَى، وَلَا يَتَعَدَّى بِعَنْ إِلَّا إِذَا ضُمِّنَ مَعْنَى الْإِمْسَاكِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ، الْمُتَنَزِّهُ عَنِ الْحَاجَةِ إِلَى أَمْوَالِكُمْ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى مَا عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ، وَجُمْلَةُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الشَّرْطِيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهِيَ «وَإِنْ تُؤْمِنُوا»، وَالْمَعْنَى: وَإِنْ تُعْرِضُوا عَنِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا آخَرِينَ يَكُونُونَ مَكَانَكُمْ هُمْ أَطْوَعُ لِلَّهِ مِنْكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ فِي التَّوَلِّي عَنِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى. قَالَ عِكْرِمَةُ: هُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمُ الْعَجَمُ. وَقَالَ شُرَيْحُ بْنُ عُبَيْدٍ: هُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ، وَقِيلَ: الْأَنْصَارُ، وَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ، وَقِيلَ: التَّابِعُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالْمَعْنَى ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ أي: فِي الْبُخْلِ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي كِتَابِ «الصَّلَاةِ»، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ:
كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ذَنْبٌ، كَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الشِّرْكِ عَمَلٌ، حَتَّى نَزَلَتْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ فَخَافُوا أَنْ يبطل الذنب العمل، ولفظ عبد ابن حُمَيْدٍ: فَخَافُوا الْكَبَائِرَ أَنْ تُحْبِطَ أَعْمَالَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ نَصْرٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
كُنَّا مَعْشَرَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ نَرَى أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْحَسَنَاتِ إِلَّا مَقْبُولٌ، حَتَّى نَزَلَتْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قُلْنَا: مَا هَذَا الَّذِي يُبْطِلُ أَعْمَالَنَا؟ فَقُلْنَا: الْكَبَائِرُ الْمُوجِبَاتُ وَالْفَوَاحِشُ، فَكُنَّا إِذَا رَأَيْنَا مَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْهَا قُلْنَا قَدْ هَلَكَ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فَلَمَّا نَزَلَتْ كَفَفْنَا عَنِ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ، وَكُنَّا إِذَا رَأَيْنَا أَحَدًا أَصَابَ مِنْهَا شَيْئًا خِفْنَا عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْ مِنْهَا شَيْئًا رَجَوْنَاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
يَتِرَكُمْ قَالَ: يظلمكم. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم وابن مردويه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ قَالُوا: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ وَسَلْمَانُ إِلَى جَانِبِ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «هُمُ الْفُرْسُ، هَذَا وَقَوْمُهُ». وَفِي إِسْنَادِهِ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ وَقَدْ تَفَرَّدَ بِهِ، وَفِيهِ مَقَالٌ مَعْرُوفٌ.
وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ إِنْ تَوَلَّيْنَا اسْتُبْدِلُوا بِنَا ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَنَا؟ فَضَرَبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْكِبِ سَلْمَانَ ثُمَّ قَالَ: هَذَا وَقَوْمُهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ مَنُوطًا بِالثُّرَيَّا لِتَنَاوَلَهُ رِجَالٌ مِنْ فَارِسَ» وَفِي إِسْنَادِهِ أَيْضًا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ. وَأَخْرَجَ ابن مردويه من حديث جابر نحوه.


الصفحة التالية
Icon