الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَى نَبِيَّهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي الْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ كَأَنَّهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ حَلَقُوا وَقَصَّرُوا، فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ أَصْحَابَهُ فَفَرِحُوا وَحَسِبُوا أَنَّهُمْ سَيَدْخُلُونَ مَكَّةَ عَامَهُمْ ذَلِكَ، فَلَمَّا رَجَعُوا مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَمْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ قَالَ الْمُنَافِقُونَ: وَاللَّهِ مَا حَلَقْنَا وَلَا قَصَّرْنَا وَلَا دَخَلْنَا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقِيلَ: إِنَّ الرُّؤْيَا كَانَتْ بِالْحُدَيْبِيَةِ. وَقَوْلُهُ: بِالْحَقِّ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: صدقا متلبسا بِالْحَقِّ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِاللَّامِ الْمُوَطِّئَةِ هُوَ قَوْلُهُ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ أَيْ: فِي الْعَامِ الْقَابِلِ، وَقَوْلُهُ:
إِنْ شاءَ اللَّهُ تعليق للعدة بالمشيئة لتعليم العباد لما يَجِبُ أَنْ يَقُولُوهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «١» قَالَ ثَعْلَبٌ: إِنَّ اللَّهَ اسْتَثْنَى فِيمَا يَعْلَمُ لِيَسْتَثْنِيَ الْخَلْقُ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ. وَقِيلَ:
كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ بَعْضُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، فَوَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ لهذا المعنى، قاله الحسن ابن الْفَضْلِ. وَقِيلَ: مَعْنَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ: كَمَا شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: «إِنْ» بِمَعْنَى إِذْ، يَعْنِي إِذْ شَاءَ اللَّهُ حَيْثُ أَرَى رَسُولَهُ ذَلِكَ، وَانْتِصَابُ آمِنِينَ عَلَى الْحَالِ مِنْ فاعل لتدخلنّ، وكذا مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ أَيْ: آمِنِينَ مِنَ الْعَدُوِّ، وَمُحَلِّقًا بَعْضُكُمْ وَمُقَصِّرًا بَعْضُكُمْ، وَالْحَلْقُ وَالتَّقْصِيرُ خَاصٌّ بِالرِّجَالِ، وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ مِنَ التَّقْصِيرِ كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي اسْتِغْفَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُحَلِّقِينَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، وَالْقَائِلُ يَقُولُ لَهُ: وَلِلْمُقَصِّرِينَ؟ فَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: وَلِلْمُقَصِّرِينَ، وَقَوْلُهُ: لَا تَخافُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَوْ مُسْتَأْنَفٌ، وَفِيهِ زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ لِمَا قَدْ فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: آمِنِينَ. فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَيْ: مَا لَمْ تَعْلَمُوا مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِي الصُّلْحِ لِمَا فِي دُخُولِكُمْ فِي عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ مِنَ الضَّرَرِ عَلَى الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى «صَدَقَ»، أَيْ: صَدَقَ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا، فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا بِهِ فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً أَيْ: فَجَعَلَ مِنْ دُونِ دُخُولِكُمْ مَكَّةَ، كَمَا أَرَى رَسُولَهُ، فَتْحًا قَرِيبًا. قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ:
هُوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَالضَّحَّاكُ: فَتْحُ خَيْبَرَ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا فَتْحَ فِي الْإِسْلَامِ كَانَ أَعْظَمَ مِنْ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَقَدْ دَخَلَ فِي تِلْكَ السَّنَتَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلُ مَنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ بَلْ أَكْثَرُ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا فِي سَنَةِ سِتٍّ، وَهِيَ سَنَةُ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَكَانُوا فِي سَنَةِ ثَمَانٍ عَشَرَةَ آلَافٍ. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى أي: إرسالا متلبسا بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ وَهُوَ الْإِسْلَامُ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أَيْ: يُعْلِيَهُ عَلَى كُلِّ الْأَدْيَانِ كَمَا يُفِيدُهُ تَأْكِيدُ الْجِنْسِ، وَقِيلَ: لِيُظْهِرَ رَسُولَهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ بِحَمْدِ اللَّهِ، فَإِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ قَدْ ظَهَرَ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَانْقَهَرَ لَهُ كُلُّ أَهْلِ الْمِلَلِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً الْبَاءُ زَائِدَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، أَيْ: كَفَى اللَّهُ شَهِيدًا عَلَى هَذَا الْإِظْهَارِ الَّذِي وَعَدَ الْمُسْلِمِينَ بِهِ وَعَلَى صحة نبوّة نبيه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مُحَمَّدٌ مُبْتَدَأٌ، وَرَسُولُ اللَّهِ خَبَرُهُ، أَوْ هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، ورَسُولُ اللَّهِ بَدَلٌ مِنْهُ، وَقِيلَ: مُحَمَّدٌ مُبْتَدَأٌ وَرَسُولُ اللَّهِ نَعْتٌ لَهُ. وَالَّذِينَ مَعَهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَمَا بَعْدَهُ الْخَبَرُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَالْجُمْلَةُ مُبَيِّنَةٌ لِمَا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَشْهُودِ بِهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ قِيلَ: هُمْ أَصْحَابُ الْحُدَيْبِيَةِ، والأولى