الجنس- مغايراً للنوع الآخر بزيادة زادوها على الكفر الجامع بينهما من الخديعة والاستهزاء- لا يخرجهم من أن يكونوا بعضا من الجنس فإن الأجناس إنما تنوّعت لمغايرات وقعت بين بعضها وبعض. وتلك المغايرات إنما تأتى بالنوعية ولا تأبى الدخول تحت الجنسية. فإن قلت: لم اختص بالذكر الإيمان باللَّه والإيمان باليوم الآخر؟ قلت: اختصاصهما بالذكر كشف عن إفراطهم في الخبث وتماديهم في الدعارة لأن القوم كانوا يهوداً، وإيمان اليهود باللَّه ليس بإيمان، لقولهم: (عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ). وكذلك إيمانهم باليوم الآخر، لأنهم يعتقدونه على خلاف صفته، فكان قولهم: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) خبثاً مضاعفاً وكفراً موجهاً، لأن قولهم هذا لو صدر عنهم لا على وجه النفاق وعقيدتهم عقيدتهم، فهو كفر لا إيمان.
فإذا قالوه على وجه النفاق خديعة للمسلمين واستهزاء بهم، وأروهم أنهم مثلهم في الإيمان الحقيقي، كان خبثا إلى خبث، وكفراً إلى كفر. وأيضا فقد أوهموا في هذا المقال أنهم اختاروا الإيمان «١» من جانبيه، واكتنفوه من قطريه، وأحاطوا بأوّله وآخره. وفي تكرير الباء أنهم ادعوا كل واحد من الإيمانين على صفة الصحة والاستحكام. فإن قلت:
كيف طابق قوله: (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) قولهم (آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) والأول في ذكر شأن الفعل لا الفاعل، والثاني في ذكر شأن الفاعل لا الفعل؟ قلت: القصد إلى إنكار ما ادعوه ونفيه، فسلك في ذلك طريق أدّى إلى الغرض المطلوب. وفيه من التوكيد والمبالغة ما ليس في غيره، وهو إخراج ذواتهم وأنفسهم من أن تكون طائفة من طوائف المؤمنين، لما علم من حالهم المنافية لحال الداخلين في الإيمان. وإذا شهد عليهم بأنهم في أنفسهم على هذه الصفة، فقد انطوى تحت الشهادة عليهم بذلك نفى ما انتحلوا إثباته لأنفسهم على سبيل البت والقطع. ونحوه قوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) هو أبلغ من قولك: وما يخرجون منها. فإن قلت: فلم جاء الإيمان مطلقا في الثاني وهو مقيد في الأوّل؟ قلت: يحتمل أن يراد التقييد ويترك لدلالة المذكور عليه، وأن يراد بالإطلاق أنهم ليسوا من الإيمان في شيء قط، لا من الإيمان باللَّه وباليوم الآخر، ولا من الإيمان بغيرهما.
فإن قلت: ما المراد باليوم الآخر؟ قلت: يجوز أن يراد به الوقت الذي لا حدّ له وهو الأبد الدائم الذي لا ينقطع، لتأخره عن الأوقات المنقضية. وأن يراد الوقت المحدود من

(١). قوله «اختاروا الايمان» لعله احتازوا- بالحاء المهملة والزاى- كما في عبارة البيضاوي (ع)


الصفحة التالية
Icon