فكان هذا الاتصال عاملا جديدا من عوامل الاستقرار النفسي، وبداية لمرحلة جديدة من النضج الفكرى، لأنه أتاح له أن يجد فى صهره شيخا ورائدا وصديقا، وسهّل عليه أن يهرع إليه يستنصحه إزاء كل مسألة تعرض له أو أمر ينبهم عليه، فلم يقع تحت تأثير بلبلة، ولم يخضع لأزمة، ولم تتجاذبه ضغوط أو صراعات.
كل ذلك ترك أثره فى شخصيته، فلسنا نجد فى مؤلفاته اضطرابا أو جموحا أو غموضا، ولسنا نشعر فيما وراء السطور بعقدة من العقد، ولسنا نحس بميل إلى ابتداع، إنما نجد أنفسنا أمام شخصية سويّة، يتميز الخط الفكرى لها بالاستقامة والاعتدال، والوضوح والصدق، والإخلاص والبذل.
ولعلّ أبسط دليل على وفاء القشيري لشيخه أنك لو تصفحت «رسالته» لما غاب اسم الدقاق عن عينك، وهو يذكر اسمه دائما مقرونا بالتكريم والترحم، ويكفيك أن تقرأ هذه الفقرة لتوضح لك أولا شيئا عن مسلك القشيري خلال حياته العلمية وتوضح لك ثانيا مدى ما ينبغى أن تكون عليه علاقة المريد بشيخه، فهذه وتلك تصوّر ما نرمى إليه من بعيد عن كشف جوانب فى سيرة الرجل الذي تقدّم لك كتابه.
يقول القشيري: «لم أدخل على الأستاذ أبى على- رحمه الله- فى وقت بدايتى إلا صائما، وكنت أغتسل قبله، وكنت أحضر باب مدرسته غير مرة فأرجع من الباب احتشاما من أن أدخل عليه، فإذا تجاسرت مرة ودخلت، كنت إذا بلغت وسط المدرسة يصحبنى شبه خدر حتى لو غرز فىّ إبرة مثلا لعلّى كنت لا أحس بها. ثم إذا قعدت لواقعة وقعت لى لم أحتج أن أسأله بلساني عن المسألة فكلما كنت أجلس كان يبتدىء بشرح واقعتى، وغير مرة رأيت منه هذا عيانا، وكنت أفكر فى نفسى كثيرا إنه لو بعث الله عزّ وجلّ فى وقتى رسولا إلى الخلق هل يمكننى أن أزيد فى حشمته على قلبى فوق ما كان منه رحمه الله تعالى؟ فكان لا يتصور لى أن ذلك ممكن، ولا أذكر أنّى فى طول اختلافي إلى مجلسه ثم كونى معه بعد حصول الوصلة أن جرى فى قلبى أو خطر ببالي عليه قط اعتراض إلى أن خرج- رحمه الله تعالى- من الدنيا) الرسالة ص ١٤٧.
وليس استطرادا أن نذكر لك كلمة موجزة عن رأى عبد الرءوف المناوى فى الدقاق،