وفى ذلك يقول القشيري فى مقدمته: «أكرم الأصفياء من عباده بفهم ما أودعه من لطائف أسراره وأنواره لاستبصار ما ضمنه من دقيق إشاراته وخفّى رموزه، بما لوّح لأسرارهم من مكنونات، فوقفوا بما خصوا به من أنوار الغيب على ما استتر عن أغيارهم، ثم نطقوا على مراتبهم وأقدارهم، والحق- سبحانه وتعالى- يلهمهم بما به يكرمهم، فهم به عنه ناطقون، وعن لطائفه مخبرون، وإليه يشيرون، وعنه يفصحون، والحكم إليه فى جميع ما يأتون به ويذرون».
ويتضح- بادئ ذى بدء- أنّ هذا اللون من الدراسة يفترق عن سائر ألوان الفكر الإسلامى فى أمور كثيرة، لعلّ أهمها عنصر الاصطفاء من قبل الله، فليس يمكن لغير من اختصهم الله بفضله أن يخوضوا فيه. فأنت تستطيع أن تكون متكلما أو فيلسوفا أو نحويا أو أديبا إذا توفّرت لذلك، وكان لديك استعداد ملائم، وخصصته بعنايتك، أمّا أن تكون مستنبطا للإشارة من العبارة فهذه خصوصية فريدة لا بدّ أن يسبقها اجتباء إلهى. كذلك يمكنك أن تكون عالما فى أي فرع من فروع المعرفة دون أن يصحب ذلك عمل، أمّا أن تقبل على القرآن الكريم لتستشف الجواهر من وراء الظواهر فهذه مسألة ينبغى أن تقترن بجهود مضنية فى تصفية النفس والقلب من كل العلائق، وتخليتهما عن كل الشواغل الدنية، وتحليتهما بكل الأوصاف السنيّة.
وربما كانت هذه الشروط المتصلة بالاجتباء المسبوق، والعمل المقترن بالعلم من أسباب ندرة ما وصلنا من هذا اللون من التفسير، كما أنها قد تكون أسباب خروج بعض ما يحشر فى نطاقه- زورا أو خطأ- عن التفسير الإشارى السديد.
فرق آخر يفرق هذا اللون من التفسير عن غيره أنه لا يعتمد اعتمادا كليا أو مسرفا على العقل، إنما هو يعنى بالأمور العقلية بالقدر الذي يعني به الصوفية بالعقل، ونعني به أن الذهن آلة لتصحيح الإيمان فى مراحل البداية، أمّا فيما فوق ذلك وفيما هو حثيث الخطو نحو المعارف العليا فهناك ملكات أخرى يناط بها حمل هذا العبء، وهى فى مذهب القشيري تتدرج صعودا من القلب إلى الروح إلى السر ثم إلى سر السر أو عين السر. معنى هذا أن استنباط الإشارات اللطيفة من النص القرآنى ليس عملية عقلية صرفة إلا فى الحدود التي تضمن عدم


الصفحة التالية
Icon