هذا عن العبادات أما عن أسباب النزول فينظر إليها القشيري كما ينظر إلى مورد المثل ومضربه، فالآية «ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ» يقول عندها القشيري: «نزلت حين أمر الله رسوله بقطع بعضها فقالت اليهود: أي فائدة فى هذا؟
أمن الصلاح قطع النخل وعقر الشجر؟
فوجد المسلمون فى أنفسهم من قولهم، فأنزل الله تعالى الآية، وأن ذلك بإذن الله، وانقطع الكلام وفى هذا دليل على أنّ الشريعة غير معلّلة، وأنه إذا جاء الأمر الشرعىّ بطل طلب التعليل، وسكتت الألسنة عن المطالبة: بلم؟ وهكذا من قال لأستاذه وشيخه:
لم؟ لم يفلح، وكلّ مريد يكون لأمثال هذه الخواطر فى قلبه جولان لا يجىء منه شىء، ومن لم يتجرد قلبه عن طلب الاعلال ولم يباشر حسن الرضا لكل ما يجرى، واستحسان ما يبدو من الغيب من الله- بسرّه وقلبه- فليس من الله فى شىء».
وفى قوله تعالى: «إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ» يقول: «نزلت هذه الآية فى أهل رجل من اليمن ترك لهم جنة متمرة، وكان يتصدّق منها للمساكين، فلما ورثه أهله قالوا: لن نفعل فعله، وأقسموا ألا يعطوا شيئا، فأهلك الله جنتهم. وندموا وتابوا» وهذه حال من له بداية حسنة، ويجد التوفيق على التوالي، ويجتنب المعاصي، فيعوضه الله فى الوقت نشاطا، وتلوح فى باطنه أحوال فإذا بدر منه سوء دعوى، وترك أدبا من آداب الخدمة تنسدّ عليه تلك الأحوال، ويقع فى فترة، فإذا حصل منه بالعبادات والفرائض إخلال انقلب حاله، وردّ عن الوصال إلى البعاد، ومن الاقتراب إلى الاغتراب عن الباب، وصارت صفوته قسوة، فإن كان له بعد ذلك توبة على ما سلف، وندامة على ما فات من أمره، فقلّما يصل إلى حاله، ولكن لا يبعد أن ينظر إليه الحق بأفضاله، فيقبله بعد ذلك، رعاية لما سلف منه فى البداية من أحواله، فإن الله تعالى رءوف بعباده».
ومن مظاهر القدرة الإلهية فى الكون والحياة والإنسان لا يغيب عن القشيري أن يستمد إشارات مناسبة يوجهها نحو الموضوعات الصوفية فيقول مثلا عند «أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» :«مهين أي حقير ذكّرهم أصل خلقتهم لئلا يعجبوا بأحوالهم، فإنه لا جنس من المخلوقات والمخلوقين أشد دعوى من بنى آدم، ومن الواجب أن يتفكر الإنسان فى أصله،