لم يظهر الله- سبحانه- آية على رسول من أنبيائه- عليهم السلام- إلّا كانت فى الوضوح بحيث لو وضعوا النظر فيها موضعه لتوصّلوا إلى حصول العلم وثلج الصدور، ولكنهم قصّروا في بعضها بالإعراض عن النظر فيها، وفي بعضها الآخر عرفوها وقابلوها بالجحد. قال تعالى وقوله صدق:
[سورة النمل (٢٧) : آية ١٤]
وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤)
وكما يحصل من الكافر الجحد «١» تحصل للعاصى عند الإلمام ببعض الذنوب حالة يعلم فيها- بالقطع- أن ما يفعله غير جائز، وتتوالى على قلبه الخواطر الزاجرة الداعية له عن فعلها من غير أن يكون متغافلا عنها أو ناسيا لها، ثم يقدم على ذلك غير محتفل بها موافقة لشهوته. وهذا الجنس من المعاصي أكثرها شؤما، وأشدّها في العقوبة، وأبعدها عن الغفران.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ١٥]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥)
يقتضى حكم هذا الخطاب أنه أفردهما بجنس من العلم لم يشاركهما فيه أحد لأنه ذكره على وجه تخصيصهما به، ولا شكّ أنه كان من العلوم الدينية ويحتمل أنه كان بزيادة بيان لهما أغناهما عن إقامة البرهان عليه وتصحيحه بالاستدلال الذي هو معرّض للشك فيه «٢».
(٢) نعلم من مذهب القشيري أن البيان أرقى في المعراج العرفانى من البرهان، ونجد هنا سبب تفوق البيان على البرهان.