حين قدم عليه أولئك النفر من مضر، وهم مجتابو النمار (أي من عريهم وفقرهم) قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ حتى ختم الآية. ثم قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر: ١٨]. ثم حضهم على الصدقة فقال: تصدق رجل من ديناره. من درهمه. من صاع بره. من صاع تمره.
وذكر تمام الحديث. وهكذا رواه أحمد وأهل السنن عن ابن مسعود في خطبة الحاجة. وفيها: ثم يقرأ ثلاث آيات هذه منها: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الآية. وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها أي من نفسها. يعني من جنسها ليكون بينهما ما يوجب التآلف والتضامّ. فإن الجنسية علة الضم. وقد أوضح هذا بقوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: ٢١]، وَبَثَّ مِنْهُما أي نشر من تلك النفس وزوجها المخلوقة منها، بطريق التوالد والتناسل. رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً أي كثيرة. وترك التصريح بها للاكتفاء بالوصف المذكور وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ تكرير للأمر وتذكير لبعض آخر من موجبات الامتثال به. فإن سؤال بعضهم بعضا بالله تعالى بأن يقولوا: أسألك بالله وأنشدك الله، على سبيل الاستعطاف، يقتضي الاتقاء من مخالفة أوامره ونواهيه. وتعليق الاتقاء بالاسم الجليل لمزيد التأكيد والمبالغة في الحمل على الامتثال بتربية المهابة وإدخال الروعة. ولوقوع التساؤل به لا بغيره من أسمائه تعالى وصفاته. وتَسائَلُونَ أصله تتساءلون. فطرحت إحدى التاءين تخفيفا. وقرئ بإدغام تاء التفاعل في السين لتقاربهما في الهمس. وقرئ تسألون (من الثلاثيّ) أي تسألون به غيركم. وقد فسر به القراءة الأولى والثانية. وحمل صيغة التفاعل على اعتبار الجمع. كما في قولك رأيت الهلال وتراءيناه- أفاده أبو السعود- وقوله تعالى وَالْأَرْحامَ قرأ حمزة بالجر عطفا على الضمير المجرور. والباقون بالنصب عطفا على الاسم الجليل. أي اتقوا الله والأرحام أن تقطعوها. فإن قطيعتها مما يجب أن يتقى. أو عطفا على محل الجار والمجرور. كقولك مررت بزيد وعمرا. وينصره قراءة تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ فإنهم كانوا يقرنونها في السؤال والمناشدة بالله عز وجل.